قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, April 26, 2013

الشيء في الصندوق - اﻷخيرة


عندما جلس هاني وحيدا في غرفته، اندهش للتطور الذي يعتري عواطف المرء. عندما عاد للدار كان ساخرا ناقدا لا يكف عن التهكم على سخف الفتيات..  كانت الأمور تبدو له واضحة جدا

كانت الأسرة كلها نائمة الآن.. شخير أخيه الأصغر يتعالى في فراشه الصغير بركن الغرفة.. ذلك الفراش الذي صنعوه له من صندوق قديم وضعوا عليه حشية.. الأبوان نائمان، والفتاة نائمة في غرفتها.. هذا جو من الوحدة يوحي بأي شيء. يتضخم الخيال مع الوقت ويصير المستحيل ممكنا

فلنر هذا الصندوق الصغير إذن
أبخرة الشاي تتصاعد وهو يقلب الصندوق في يده، ثم فتحه بحذر وأخرج اللفافة وراح يقرأ القصيدة

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا
وقابيل يلقى أخاه الحبيب
فتجري الدماء ويهوى قتيلا
لقد حان حينك يا ابن الدياجي
ألا تسمع الموت يأتي عجولا؟
خرجت لتلهو قرب الردى
فجاء الردى غاضبا مستحيلا

لا يمكن أن تتهم الشاعر بأنه عبقري، وبالتأكيد لم يكتبها المتنبي، لكن هناك جوا من الغموض المشئوم يحيط بهذه الأبيات.. شيء سام.. لا شك في هذا.. ستة أبيات

الخط خط رقعة جميل جدا وأنيق.. مد يده يبحث عن ريشة الكتابة التي كان يستعملها في مدرسة الخطوط وأخرج قنينة الحبر الشيني الصغيرة

بحذر.. وبنفس الخط الجميل تقريبا كتب في نهاية القصيدة:ـ

وعدت هنالك وقت الغروب
فألفيتها في انتظاري طويلا
وعاد الوصال يزور القلوب
وعاد الربيع ينير السهولا

بحذر.. وبنفس الخط الجميل تقريبا كتب في نهاية القصيدة - (رسوم: فواز) ـ

تمت بحمد الله
ونظر في رضا إلى البيتين الأخيرين.. نهاية سعيدة إجبارية..  لقد انتهى هذا الكابوس إذن
وهنا انقطع التيار الكهربائي

******

العمة كانت تعرف أفضل في أيامها الأخيرة
عندما تقدم بها العمر وأدركت أن الرحيل على الأبواب، قررت أن تفتح هذا الصندوق الذي وجدته في حاجيات أمها.. أمها كانت تقول كلاما غريبا عن عثورها عليه في المقابر يوما ما، كانت أمها لا تقرأ ولا تكتب لذا لم تعرف قط ما في الصندوق حتى ماتت.. الآن وقد صار الحاجز الفاصل بين العالمين واهيا جدا أو افتراضيا خطر لها أن تلقي نظرة

طلبت من ابنتها وصال أن تجلبه لها، ثم جلست في الفراش تضيق عينها في ضوء المصباح الشاحب
فتحت الصندوق وبعينين واهنتين قرأت المكتوب في اللفافة.. ولم تفهم شيئا:ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا

بيت شعر واحد.. ما معنى هذا ولماذا يدفنه أحد في صندوق؟ لم تدر السبب.. لكنها طلبت من ابنتها أن تحتفظ به في خزانة الثياب في الرف العلوي.. حيث تحتفظ بالبطاطين

راحت تتأمل عود وصال الرشيق وهي تشب على الفراش لتضع الشيء في خزانة الثياب، وخطر لها أن وصالا هي أروع شيء حققته في حياتها.. عروس فاتنة مكتملة وطالبة جامعية.. أفضل أولادها بلا جدال
عندما نامت أخيرا لم تكن تعرف أنها المرة الأخيرة

يقول رجال الشرطة إن الفتاة ارتكبت خطأ فادحا. لقد عجزت عن النوم فشربت جرعة من دواء الكلورال المنوم.. لما عجزت عن النوم برغم هذا أخذت قرصا منوّما من أدوية الوالدة.. كلورال مع الكحول أو المنوم.. كثيرون تلقوا درسهم الأول في علم الفارماكولوجيا وهم يدخلون القبر

ماتت وصال بطريقة عبثية عجيبة.. مخزون هائل من الحزن صار لدى العمة كي تقزقزه كاللب وحدها في كل ليلة.. وطالت أيام الحزن وهي تدعو الله أن يرحمها وتموت

ما حدث بعد هذا هو أنها طلبت من أحد أولادها أن يجلب لها ذلك الصندوق اللعين.. عندما فتحته بيد واهنة ألقت نظرة على القصيدة.. فوجدت الأبيات تقول:ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا

ارتجفت ذعرا.. هذا البيت الأخير لم يكن موجودا بالقطع قبل ذلك
وماذا يقول؟ يقول: "إذا ما الوصال غدا مستحيلا".. بالفعل صار الوصال مستحيلا؛ لم تعد هناك وصال
امتلأت تشاؤما من هذه القصيدة، وتذكرت أنها فقدت ابنتها الفاتنة يوم فتحت الصندوق.  هذا الصندوق ملعون بلا شك.. هذا الصندوق مسحور

وهكذا قضت أيامها الأخيرة في محاولة الخلاص من هذا الصندوق.. جربت طرق التدمير كلها، وفي النهاية أدركت أن الصندوق والقصيدة أقوى من الجميع.. وعرفت أن عليها أن تدفن هذا الصندوق معها.. فقط في كفنها وتحت الأرض لن يجده أحد
هكذا أوصت.. ولم تدر أن هذه الوصية بالذات هي ما سيدفع وغدين من الأسرة، هما هشام وصلاح إلى نبش قبرها.. لقد كان الإغراء أقوى منهما

******

بعد ساعتين عاد التيار الكهربي فأطفأ هاني الشموع التي أشعلها في الصالة.. لم يشعر أحد من النائمين بالانقطاع، أما هو فقد كاد يفرغ أحشاءه ذعرا. تذكر أسطورة لعنة الفراعنة وكيف انقطع التيار الكهربي عن القاهرة لحظة فتح تابوت توت عنخ آمون

قرر أن يعود ليلقي نظرة على القصيدة التي كتبها منذ قليل
هنا وجد الأبيات التالية في نهاية القصيدة:ـ

تراك ستصمد حتى الصباح؟
 تراك ستصبر صبرا جميلا؟

هنا شعر بشعر رأسه ينتصب.. هذا بيت لم يكتبه.. هذا بيت كتب نفسه في الظلام.. القصيدة مصرّة على أن تستطيل.. لم تقنع بالبيتين الأخيرين

وفي هذه اللحظة شعر بتلك الرغبة المجنونة.. هرع إلى المطبخ وانتقى أكبر سكين هناك.. عاد لغرفة النوم.. وقف يراقب في نهم أخاه النائم.. يرمق شريان عنقه النابض.. الدم الدافئ ينتظر بالداخل.. دم أحمر قانٍ
ثم فطن لنفسه فتراجع مذعورا

هرع هاني إلى المطبخ وانتقى أكبر سكين هناك ـ (رسوم: فواز) ـ

هناك الأبوان النائمان في غرفة النوم.. لن يشعرا بالرحيل.. سوف يكون موتا رحيما
وماذا عن الكيروسين؟ هناك موقد بريموس به كيروسين.. لو سكب منه في أرجاء الشقة وأشعل عود ثقاب فلسوف ينتهي كل شيء

ثم فطن لنفسه من جديد.. قرأ المعوذتين.. إنه واقع تحت تأثير نفسي كاسح
يمكن أن ينهي هذا بأن يثب من النافذة.. أن يقتل نفسه.. سيكون هذا أفضل الحلول الممكنة من دون أن يؤذي أحدا سواه
ثم عاد يتيقظ من جديد.. هذا هراء.. إنه يهذي

الشيء في الصندوق وضعه في مأزق يفضّل معه الانتحار على أن يذبح أحبابه.. لكن لماذا يختار بين الاثنين؟
تراك ستصمد حتى الصباح؟
تراك ستصبر صبرا جميلا؟
لا.. لن يستطيع الصمود.. لو مرت ساعة أخرى سيكون قد ذبح كل أحبائه.. أو قتل نفسه

جلب زجاجة الحبر الشيني ووقف عند حوض المطبخ وسكب كل قطرة فيها على القصيدة، حتى تشوهت تماما وصارت عسيرة القراءة.. وضعها في العلبة، ثم غادر البيت
بالتأكيد سمعوا صوت الباب وهو ينغلق.. بالتأكيد أصابهم الذعر وتساءلوا أين هو.. لا يهم

راح يركض في الشارع الخالي
راح يركض عبر تلك الأرض الخالية المظلمة.. أرض لم يتم بناؤها بعد، وإن كانت بعض الأساسات قد وضعت فيها
وجد عمودا من خرسانة فركع جواره في الظلام، وراح ينبش وينبش

فريشت.. فريشت.. فريشت
الصوت يحطم الأعصاب. يمكنك أن تجن بلا مبالغة. هناك تلك النغمة المكتومة، وهناك ذلك الإحساس القوي بالتربة الرطبة
وضع الصندوق الصغير في الحفرة..ثم راح يهيل فوقه التراب

عندها رأى ذلك الشخص قادما من بعيد.. الظلام دامس لكنه يراه في ضوء النجوم.. توقف قلبه للحظة من الذعر، ثم نهض وانطلق يجري بلا توقف

أنت تعرف أنه سيجن ويقتل نفسه في الأيام القادمة.. لن يفهم أحد سبب هذا الضغط العصبي الشنيع الذي  آذاه كثيرا.. لكن هذا ليس موضوعنا طبعا

******

أنا وجدت القصيدة
يمكنني الآن أن أقدم لك هذا الاعتراف الصغير. كنت عائدا من دار صديق لي في هذه الساعة المتأخرة، وشعرت بنداء غريب يدفعني إلى عبور هذه الأرض الوعرة الخالية من المباني.. كنت أشعر بذعر لكني تمالكت نفسي
رأيت هاني يدفن شيئا ويفر كالمذعور.. مشيت إلى حيث دفن ما بيده.. وأخرجت ذلك الصندوق الصغير

وعندما فتحت الصندوق شعرت بأنني أعرف القصة كلها.. أعرف الفتى عمادا وهالة وهاني والوغدين صلاح وهشام
القصيدة قد تلوثت بالحبر الشيني كلها لكني أعرف كل حرف فيها
سوف تكتمل القصيدة.. ربما تبلغ ألف بيت

ويوما ما سوف يكملها أحد رجال التبو في منطقة تسيلي -ممن يجيدون العربية- ويضيع في الصحراء وسط العواصف الرملية.. وسوف يموت، لكن القصيدة سوف تصل كاملة إلى "أوبار"ـ

الآن أنا أملك الصندوق والشيء في الصندوق.. القصيدة..  وأملك أن أنقلها لك.. وأعرف أنها ستكتمل. لهذا كتبت هذه القصة، وبالتالي صارت القصيدة لدى كل من قرأ القصة

تسعة أبيات في هذه القصة، أحدنا سوف يكتشف غدا أنها عشرة أبيات.. والقصة تزداد طولا وتنتقل من يد إلى يد
ـ"أوبار".. قد قمت بواجبي.. فهل أنت مسرور؟

تمت