قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, October 28, 2013

داءان لن يزولا



أبدأ هذا المقال بأن أقتبس فقرات لى من مقالين قديمين كتبتهما فى عهد مبارك:

«لست أذكر المناسبة بالضبط، لأننى كنت مراهقًا فى المدرسة الثانوية أجلس أمام جهاز التلفزيون، أتابع ما أذكر أنه حفل تكريم أو عيد للعلم .. شيء من هذا القبيل .. على المنصة يجلس الرئيس الراحل (أنور السادات)، واللحظة هى تكريم أحد أساتذته السابقين فى المدرسة.. كان الرئيس الراحل يحب هذه المواقف لما فيها من مسحة درامية.. (هل تذكر الحطاب الفقير الذى آويته فى دارك وأطعمته فى تلك الليلة؟.. لقد كان هو الخليفة متنكرًا!.. وقد خلع عليك قصرًا وزكيبة من الذهب).. وقد سبق هذا تكريم مماثل لمن يدعى (سائق دمرو) الذى ساعد السادات فى ظروف مماثلة. المهم أن الأستاذ المسن الذى تصلبت شرايين مخه، والذى عاش عصور النفاق منذ أيام مولانا ولى النعم، اعتلى المنبر فقال بالحرف الواحد: «الله يقول: إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب.. أما نحن فنقول: إن فى خلق السادات والأرض .. كذا ..». أقسم بالله أن هذا قيل حرفيًا، وسوف أُسأل عنه يوم القيامة.. لقد أصابنى الهلع من هذه الدرجة العبقرية المفزعة التى يمكن أن يبلغها النفاق.. والأغرب هو أن أحدًا لم يعترض.»

«كانت نهاية عصر السادات كما أذكرها مهرجانًا دائمًا من المزايدة على فن النفاق، وإننى لأذكر جلسة مجلس الشعب الصاخبة لتنصيب السادات سادس الخلفاء الراشدين.. بما أننى طنطاوى فقد شعرت بجو المولد الأحمدى العام حيث الكل يصرخ.. الكل مبتل بالعرق.. الكل يزايد..»

إن ثقافة النفاق عتيقة جدًا فى بلادنا.. ومهما دارت الأيام فإن مفهوم الشاعر الذى يدخل على الخليفة فيمدحه، ويخرج حاملاً زكيبة مال، هو مفهوم متأصل فينا ويصعب الخلاص منه..

لا أزعم أننى درست الأدب العالمى، لكن أزعم أنك ستتعب كثيرًا حتى تجد بيتًا من الشعر فى أى لغة يماثل ما قاله ابن هانى الأندلسى فى مدح الخليفة الفاطمى المعز لدين الله :
ماشئت لا ماشاءت الأقدار .... فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبى محمد ..... وكأنما أنصارك الانصار !!

إن أى أمة يُقال فيها كلام كهذا هى أمة مقضى عليها بالفناء، فلا غرابة أن يقال إن هذا الشعر كان نذيرًا بفناء دولة العرب فى الأندلس.

المزايدة تتكرر فى قصص التراث بلا انقطاع .. ها هو ذا (أبو تمام) ينشد قصيدته السينية أمام الأمير (أحمد بن المعتصم).. فيقول الشاعر فى نفاق صادق حار واصفًا الأمير:
إقدام عمرو فى سماحة حاتم ..... فى حلم أحنف فى ذكاء إياس
هنا يتدخل رجل بلغت به (سلطنة) النفاق درجة أعلى.. هذا الرجل هو أبو يوسف يعقوب الكندى قائلاً:
ـ«الأمير فوق من ذكرت !»

يعنى كل هذا النفاق غير كاف.. الأمير أعظم من هذا.. لابد من المزايدة فقد بدأ (مولد) النفاق.. وعلى الفور يستغل (أبو تمام) موهبته ليرتجل شعرًا لم يكن مكتوبًا:
لا تنكروا ضربى له من دونه ... مثلا شرودا فى الندى والباس
فاللّه قد ضرب الأقل لنــــوره ... مثـــــلا من المشكاة والنبراس

هذه القصة لا ترد فى المراجع دليلاً على عبقرية النفاق، بل على براعة الشاعر وحسن تصرفه

«ذات مرة – قبل أن يدخل معترك السياسة بهذا الوضوح – زار السيد (جمال مبارك) مدرسة خاصة للفتيات فى القاهرة، فنشرت التلميذات فى إحدى المجلات رسالة مناشدة إلى الرئيس مبارك تقول: «نحن فى بلد ديمقراطى ومن حقنا التعبير عما يجول بخاطرنا، وأنت علمتنا الحرية وعدم الخوف.. لذا نطالب الرئيس مبارك بأن يكلف السيد (جمال) بمنصب سياسى مهم!».. هذا نوع من النفاق عجيب، على غرار: «اتركنى أقول شهادتى التى سأسأل عنها أمام الله.. أنت أعظم وأروع من رأيت!».. هم مستعدون فى أى بلد عربى كى يهتفوا (الأمير فوق من ذكرت) فى أى لحظة.. ولسوف يظهر لهم من يزيد بيتين من الشعر لإرضاء الحاكم..»

كتبت هذا الكلام منذ زمن بعيد .. ثم جاء يوم 20 أكتوبر هذا العام لأقرأ فى جريدة مهمة هذه الكلمات بالذات، لكاتب كبير:
«أقول لا يزال البعض يصر بل وينصح الرجل الوحيد القادر على قيادة سفينة الوطن.. بأن يبتعد عن عجلة القيادة بحجة ان هذا الامر سوف يثبت ان ما حدث لم يكن إلا مجرد انقلاب. لهؤلاء (الحماقرة) اقول احتفظوا بآرائكم لانفسكم وابتعدوا عن الصورة علشان تطلع حلوة من غيركم اما انت يا سيدى الفريق أول عبدالفتاح السيسى فاسمح لى ان اعيد على أسماعك ما قاله احد الشعراء للخليفة الحافظ وكانت البلاد تمر بظروف دقيقة. قال الرجل:
ما شئت.. لا ما شاءت الاقدار
فأحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما انت النبى محمدا
وكأنما انصارك الانصار»

قرأت هذا الكلام الصادم وتضايقت جدًا. كيف يخطئ كاتبنا ويقول إن هذه الأبيات لمدح الخليفة الحافظ بينما هى للمعز لدين الله الفاطمى؟. كما أنه نصب اسم (محمد) مع أنه مرفوع. هذه الأخطاء تضايقنى فعلاً كما تعلم.

أما عن استعمال هذا البيت سيئ السمعة الذى كان شؤمًا على الأندلس، والذى يصف الحاكم بالواحد القهار، حتى يوشك على أن يقدم له القرابين، فهذه حرية شخصية.

بعيدًا عن الكاتب الكبير الذى أحمل له الاحترام، فعلينا أن نتذكر أن كل هذا الزن على الودان وكل هذا التأليه والغناء ليلاً نهارًا لابد أن يغير شخصية أى حاكم، ما لم يكن عمر بن الخطاب شخصيًا. من حقك يا سيدى أن تختار السيسى ولا ترى غيره، لكن ليكن ذلك بشكل موضوعى بعيدًا عن طريقة (الأمير فوق من ذكرت) هذه. دعك من جو الناصرية الصناعى الذى وضعونا فيه ولا أرى له تفسيرًا. يعرف من يعرفنى جيدًا أننى شديد الحماس لعبد الناصر وأحب هذا الجو جدًا لو كان حقيقيًا، لكنى مصر على أن معظم هؤلاء (الناصريين الجدد) كانوا يشتمون عبد الناصر أيام السادات ويتهمون عهده بالدكتاتورية والكرنكة ومراكز القوى، ثم بعد أعوام راحوا يدندنون (اخترناه .. اخترناه).. ثم راحوا ينادون باكين بحق جمال مبارك فى التوريث.. هو مش مواطن مصرى زى أى مواطن يا جماعة ؟.. ثم من سواه يصلح أصلاً؟ واليوم عادوا إلى (ضربة كانت من معلم.. خلت الاستعمار يسلم). بالمناسبة حكى هيكل عن أنه فى سنوات الستينيات دخل عليه أحد المدرسين طالبا لقاءه بشدة، فقابله فوجده يحمل كتابًا مدرسيًا يُدرّس للصف الاول الابتدائى، يقول: «خلق الله لنا العينين لكى نرى عبد الناصر. وخلق الله لنا الأذن كى نسمع عبد الناصر».

ثم تساءل المدرس الشجاع: هل يقبل عبد الناصر بذلك؟ وطبعًا استاء هيكل وأبلغ عبد الناصر وتم حذف هذا النفاق. أحيانًا تتجاوز جلالة النفاق الحد حتى تحرج من يتم نفاقه وتسيئ إليه. لكن لدينا من هم مستعدون لتجاوز كل الحدود.

باختصار.. يبدو أن البلهارسيا والموالسة داءان متوطنان لن يزولا عن مصر أبدًا