قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, July 22, 2014

القصة ذاتها



ربنا يجعل كلامنا خفيف على الكهربا، هناك حالة تحسن ملحوظ منذ ثلاثة أو أربعة أيام.. كانت الأحوال فى طنطا قد بلغت درجة الجنون فعلاً، خاصة عندما يقطعون الكهرباء ساعتى الإفطار والسحور بالذات بإصرار مريب، مع فترات تصل لسبع ساعات يوميًا بلا مبالغة. كنت أنوى الكتابة عن هذا الموضوع اليوم، خاصة أنه غامض وغريب (لا تحدثنى عن ارتفاع الأحمال فى الثالثة أو الخامسة صباحًا بعد ما أغلقت كل المحلات والمقاهى أبوابها منذ ساعات).. كأن هناك من يضغط على الناس لتنفجر. فمن هو؟ لا تقل لى خلايا إخوانية نائمة من فضلك فهذا تفسير سهل مللناه. أقول إننى كنت أنوى الكتابة عن ذلك، لولا أن موضوع غزة وثب ليتصدر الأنباء ويصير حديث الساعة. انقطاع الكهرباء يجعل الحياة جحيمًا، فكيف بقصف جوى وبحرى لا ينقطع إذن؟ وكيف بمستشفيات مكدسة بالجثث؟

كتب الجميع عن الموضوع وباستفاضة، لهذا لن أضيف شيئًا بما أكتبه. فقط سوف أتذكر أمرين حدثا فى هذا الشهر، ولهما ارتباط قوى بما نراه اليوم. الأول هو وفاة المفكر العظيم عبد الوهاب المسيرى فى 3 يوليو عام 2008. أى أننا عشنا من دونه ستة أعوام، نتخبط فى الضباب من دون رؤيته الثاقبة ولا المشعل الذى يرفعه عاليًا فيقود تفكيرنا. المسيرى ترك تراثًا هائلاً من الفكر وثروة فلسفية أكيدة، لكنه كذلك من أعمق وأهم من درسوا المجتمع الإسرائيلى، وأعتقد أنه ما من مثقف عربى لا يحتفظ بموسوعته عن اليهود سواء كمجلدات او فى صورة رقمية على الكمبيوتر. دعك من أنه شارك فى مظاهرات كثيرة جدًا ضد نظام مبارك واعتقل. أفكاره الفلسفية عن العلمانية الجزئية والحلولية.. إلخ معقدة جدًا لغير المتخصصين، لكن المثقف العادى يعرف آراءه فى المجتمع اليهودى. من الصدفة ان هذا الشهر يتزامن مع سيناريو رأيناه عدة مرات لمذابح تقوم بها إسرائيل ضد غزة. كان المسيرى يرحمه الله يرى أن إسرائيل لا تملك مفاتيح الاستمرار فى مجتمع يحاول أن يلفظها من حولها، ومن الواضح أنها لن تذوب فى هذا الوسط أبدًا. وجودها ارتبط بكمية هائلة من المذابح والدماء، فى الوقت نفسه لم تنجح فى عمل استعمار إحلالى يبدل بالكامل التركيبة الجغرافية للمنطقة التى هى فيها، كما فعل المهاجرون الأوروبيون فى أمريكا واستراليا مثلاً. بدأت تعتمد على فكرة المعازل البشرية للسكان الأصليين والأبارتايد، مع التركيز على فكرة المستوطنات. كان المسيرى لا يعتقد أن يهوديًا واحدًا فى العالم كله سيحتفل بمرور مئة عام على قيام دولة إسرائيل. بل إنه اعتبر –فى لقاء تلفزيوني– أن فترة عشرين عامًا تفصلنا عن تلك النهاية طويلة جدًا، وهى أقرب إلى التفاؤل الصهيونى. هناك مفكرون يهود كثيرون توقعوا الشىء ذاته، ومنهم الفرنسى (جاك أتالى) الذى كتب مقالاً شهيرًا عن هذا فى الإكسبريس الفرنسية، والمفكر الاسرائيلى الساخر الذى قال: «على آخر اسرائيلى عائد إلى أوروبا أن يتذكر ويغلق مفتاح النور قبل الرحيل!». حتى على مستوى الأسطورة نفسها، فإسرائيل خطيئة توراتية كبرى اسمها (ضحكت هاكيتس) أى (التعجيل بالنهاية).

يرى د. المسيرى أن الفلسطينى ينمو ويستوعب العصر، فلم يعد هو مزارع البرتقال البسيط الساذج، الذى يرقص الدبكة طيلة اليوم ثم يموت برصاصة فى رأسه.. ويقول أستاذ جغرافيا فى الجامعة العبرية: «الفلسطينيون سيهزموننا فى غرف النوم ومدرجات الجامعة»، فلا تنس أن المرأة اليهودية هى أقل نساء العالم خصوبة، والمرأة الفلسطينية على العكس تمامًا.

فى كل مرة يتكرر نفس السيناريو وتثبت إسرائيل أنها قادرة على عمل المذابح وتدمير مدن كاملة، لكنها عاجزة عن تحقيق نصر استراتيجى.

فى نفس الشهر نتذكر إسرائيل التى خرجت من حرب 1973 وبدت تلملم سمعتها بصعوبة. ثم جاءت عملية عنتيبى فى 4 يوليو عام 1976 لتعيد لها تلك السمعة. لمن لا يذكرون القصة؛ نقول إن فلسطينيين وبعض الألمان قاموا بخطف طائرة ركاب خاصة بالخطوط الجوية الفرنسية، وأرغموها على الهبوط فى عنتيبى بأوغندا. وهناك تم استبقاء اليهود فقط. كان هناك تعاون وتعاطف واضحان نحو الفلسطينيين من عيدي أمين، وهكذا قرر الإسرائيليون أنه لا سبيل لاستعادة أسراهم بالسياسة؛ لذا أرسلوا قوة كوماندوز قوامها مئة جندى إلى أوغندا. استعملوا سيارة مرسيدس سوداء ليعتقد الحراس أنها سيارة رسمية. كان قائد العملية هو جوناثان نتنياهو –أخو بنيامين نتنياهو– وكانت عملية ناجحة بكل المقاييس، حيث تم تحرير الرهائن وقتل جميع الخاطفين، ودمروا عشر طائرات ميج سوفييتية واقفة فى المطار، وقتل 45 جنديًا من الجيش الأوغندى، ولم يمت من الكوماندوز سوى القائد جوناثان نتنياهو نفسه. كل هذا تم فى ساعة ونصف، وفى مطار بلد معاد.

نفس العملية جرب السادات أن يكررها فى حادث مطار لارناكا فى قبرص فى فبراير 1978 لدى اختطاف طائرة مصر للطيران هناك، لكن لم يتم التنسيق مع الحكومة القبرصية التى فتحت النار على الكوماندوز، وكانت مذبحة سقط فيها 15 من رجال الصاعقة المصريين، وكل طاقم الطائرة الذين تلقوا قذيفة مباشرة بالآر بى جى، ولم يخدش خاطفو الطائرة. علامات استفهام كثيرة تحيط بموقف القبارصة الذين هاجموا القوات المصرية بحماس مجنون لا يمكن تفسيره بعدم التنسيق فقط.

تاريخ إسرائيل يحمل الكثير من العمليات العسكرية الناجحة بالتأكيد، لكن إلى متى؟ وما نوع هذه الحياة القائمة على الدم والرصاص؟.. ثم ما جدوى هذه القوة العسكرية إذا كانت عاجزة عن قهر مجموعة ميليشيات قامت بصنع صواريخها بنفسها، وتستطيع التسلل داخل إسرائيل متى أرادت، ويمكنها عمل طائرات استطلاع بدائية، والتشويش على إرسال التلفزيون. إسرائيل ذئب مسعور هائج يضرب رأسه فى القفص ويمكن أن يقضم أى يد يجدها أمامه، ولنا أن نتوقع عددًا لا بأس به من المذابح قبل أن تكتشف إسرائيل أنها هزمت مرة أخرى، فلم تحقق سوى أنها قتلت عدة مئات نصفهم أطفال ونساء ودمرت عشرات المبانى. قالوا إن إسرائيل لا تتحمل هزيمة واحدة بحكم تكوينها.. الحقيقة أن هذه ستكون الهزيمة الرابعة أو الخامسة..

ملاحظة أخيرة: آلة ضخ الأكاذيب المعروفة بالإعلام تمارس عملها بنشاط وحماس لقلب الحقائق وجعل العدو صديقًا والصديق عدوًا. أنشط وأكفأ آلة فى العالم العربى كله. أمس جعلوا الجزائريين أعداء لمصر، ثم جعلوا الفلسطينيين، ثم أهانوا المغاربة إهانة لا يمحوها أى اعتذار. والسؤال هو: إلى متى يُترك العنان لهؤلاء؟