قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, July 24, 2014

التقمص


كنت أركب مع ذلك الصديق في سيارته؛ وهو فنان تشكيلي وشاعر خفيف الظل. دار الكلام عن فنانة شهيرة قيل إنهم زوَّجوها في قسم الشرطة في شبابها. هنا راح يحكي لي القصة بأصوات أبطالها: صوت الفتاة وهي تبكي لأنها فقدت شرفها، صوت الأم الريفية المذهولة التي تضرب ابنتها بالخُفِّ، صوت الأخ البلطجي الذي يعرف بالأمر؛ فيتوجَّه لحبيب الفتاة في داره حاملًا سنجةً ليمزِّقه بها … ثم الحبيب الجبان المذعور الذي يضطر للزواج؛ حتى لا يفتحوا بطنه بالسنجة.


كان صديقي يقدِّم كلَّ هذه الأصوات ويتقمَّص كلَّ هذه الشخصيات وهو شارد الذهن زجاجيُّ العينين، يثبِّت بصره على الطريق أثناء القيادة. أُقسم إنني شعرت بالذعر؛ لقد كان في داخله خمسة يتكلمون، وكلُّ واحد مُقنِع تمامًا … الصوت الأنثوي المائع للفتاة … صوت الأم الرفيع المرتجف … صوت الأخ الغليظ المنذر بالويل. تذكَّرت فيلم «جماجم جوناثان دريك السبع» المخيف، حيث كان ساحر الفودوو يحبس الأرواح في جماجم، وعلى المسرح يستعين بسحر الفودوو لتتكلم كلُّ جمجمة بصوت صاحبها. بالمثل كانت تلك الأرواح حبيسةً في جسد صاحبي تتكلم عبر حنجرته. كانت لحظةً من عبقرية الأداء لم يستطع أن يكرِّرها قطُّ بعد ذلك كلما طلبتُ منه.

هذه الموهبة يجب أن تكون متضخمةً لدى الأديب بشكل واضح، وأعتقد أن الأديب الحقَّ يُخفي تحت جمجمته فتاةً مهذبةً ومُقامرًا مُحترفًا وبلطجيًّا ورجلَ شرطة وجنديًّا وفتاةَ ليلٍ … إلخ. فقط هو يكشط السطح ليستحضر الشخصية التي يريدها في الوقت الذي يريد. وبالتأكيد تعظم قيمة هذه الموهبة إذا كان صاحبها يكتب عملًا دراميًّا. لحظة الإبداع الحقيقية هي عندما تدبُّ الحياة في تلك الشخصيات وتتفاعل مع بعضها بطريقة قد تدهش الأديبَ نفسَه؛ أي إنه لا يعرف ما سوف تقوله زنُّوبة لزوجة حميها اليوم، أو ما سيقوله الأب لفهمي بعدما عرف موضوع المنشورات … إلخ. كانت ضحكات الأديب الفرنسي الكبير ألكسندر دوما تدوِّي من غرفة مكتبه، فقالت الزوجة لضيوفها: إنه يكتب «الفرسان الثلاثة»، وهو يضحك بسبب دعابة ظريفة قالها أراميس لدارتانيان!

يثير دهشتي كَمُّ الشخصيات التي تقمَّصها نجيب محفوظ مثلًا في ثلاثيته المذهلة. في لحظةٍ يصير داخل كمال العاشق المرهف المثقف ويرتدي حذاءه ويتكلَّم مثله. في لحظةٍ يصير ياسين الشهواني الذي يقضي يومه في تأمل مؤخرات النساء، ثم فجأة هو سيد عبد الجواد الوقور المَهيب الذي يهوى الخلاعة والطرب كذلك. يمكنه التفكير مثل باشا شاذٍّ جنسيًّا، أو مثل شابٍّ من جماعة الإخوان المسلمين في بدايتها، أو أمٍّ فقدت ابنتها الشابَّة السقيمة.

تتفاوت هذه المهارة عند أدباء كثيرين بالطبع، ولكنها تتناسب طرديًّا مع وزن الأديب وحجمه.

النَّصْبُ موهبة أخرى مهمة من مواهب الأديب؛ فعليه أن يخلق جوًّا زائفًا محكم التفاصيل يقنع القارئ.

بالنسبة لنوعية أدب «البوب» الذي أكتبه للشباب — حيث يمكن أن تدور الأحداثُ في أيِّ مكان في العالم — كان عليَّ أن أتعلَّم النَّصْبَ في أقوى صورة له. بعض القراء لم يصدِّق أنني لم أذهب لرومانيا قط … كما أنني كتبت الكثير جدًّا عن لندن قبل أن أرى إنجلترا. الفكرة هنا هي أن يمتلئ رأسك بأعمال أدبية من ذلك البلد … تستعين بخارطة جيدة أو بعض مذكرات مَن ذهبوا هناك … تستعين برواية فيها قدرٌ لا بأس به من أسماء الناس … تخلق الجوَّ بعدة لمسات.

كتبتُ ذات مرة — على سبيل المُزاح — خطابًا لصديق من أصدقائي أدعوه إلى الذَّهاب للمقهى مساءً، واخترت أن أقلِّد أسلوب الكلام في التبت … هل أنا قد زرت التبت؟ بالطبع لا، لكن بوسعي أن أخلق جوًّا زائفًا لا بأس به. كتبتُ لصديقي: «يمكننا أن نركب حيوان الياك لنقصد الهضبة خلف الدير، وهناك نجالس رهبان الماهيانا ونشرب الشاي بالزبد، وربما لبن الماعز المختمر … سوف تحمينا أرواح الأجداد من هجمة الياتي ومن الشيانج تشي. يمكنني أن أجلب كاهنًا من كهنة الشامان أو التاو؛ لينثر الأرز المسلوق في طريقنا فيحمينا. عندما تنتهي الأمسية سوف نشرب التشانج حتى تنتهي العاصفة. ما رأيك أيها المقدس أربع مرات؟»

استعملت خبرة التبت هذه مرارًا في قصصي.

صديق آخر اخترت أن أكلِّمه بطريقة المكسيكيين: «بحق القديسة ماريا، هذه حياة قاسية يا زميلي، هذه حياة قاسية جافة كَشَفَتَيْ غانية في السبعين. لِمَ لا نعبر نهر الريو ونقصد حانة بابلو لنأكل التاكو والتورتيا ونشرب التاكيلا؟ لو قابلت خافيير لوبيز الوغد هناك فسوف أقطع أذنيه؛ لأنه مدين لي بخمسين بيزو في القمار. سوف نشرب التاكيلا ونغازل تابيوكا الحسناء مرارًا … بعدها نعود إلى المارايالي ونطلق الرَّصاص على أكثر من جرينجو. بحقِّ القديس بيتر الكوزموبيتالي، هؤلاء اليانكي في أريزونا سوف يرقصون على صوت طلقاتنا … ييييهيييييييييي!»

أما عن الأدب الروسي قبل الثورة، فموضوع ذو شجون؛ لأنني قرأت الكثير جدًّا منه مع صديق عزيز … بالذات الترجمات ذات الطابع الخاص لداري مير ورادوجا التي قام بأغلبها سامي الدروبي ود. أبو بكر يوسف. هكذا كنا نتبادل الخطابات: «يا صاحب السعادة بما لا يُقاس، فليخطفني الشيطان لو قصدت أن أهمل خطاباتك، إنها لتصير فوضى. أقول لكم: إنني بالفعل أحمر الوجه خجلًا مثل سرطان البحر المسلوق!»

فأردُّ عليه: «أتمنى أن أضربك على أصول فخذيك؛ فأنت أغبى من مستنقعٍ بما لا يقاس … إن شاء الله تأخذك مصيبة! انظروا يا عباد الله، السكير الذي يَعبُّ الفودكا كإسكافي قد قتلني …»

لا أعرف كيف يتكلم الروس فعلًا بلغتهم، وهل هذا الطابع الخاص بالكلام أصيل في اللغة الروسية أم هي طريقة الترجمة؟ لكني بالفعل أملك يقينًا أن هذه طريقة كلامهم.

يمكننا كذلك أن نُلفِّق جوًّا فرنسيًّا زائفًا: «إن حكومة الديركتوار غير راضية عن المواطن لافوازييه … يقال: إن لديه ميولًا ملكية واضحة. فيف لا فرانس أيها المواطن.» بالطبع ليس أسهل من تلفيق جو الهنود الحمر: «سوف نبتاع بنادق من الوجوه الشاحبة، ونمنحهم الجياد والتبغ … سنعقد باواو الليلة … ابتعدوا عن الجنود الزرق؛ فهم يتكلمون بلسان ملتوٍ.»

أعترف أن خلق جوٍّ ريفيٍّ أو صعيديٍّ مقنع يتعبني جدًّا. الجوُّ البدويُّ الصحروايُّ الساحر — جوُّ الطوارق والتبو — في قصص إبراهيم الكوني مثلًا يستحيل أن تقدِّمه ما لم تكن هذه بيئتك أصلًا. هناك جزء «شرقاويٌّ» في أدب يوسف إدريس يستحيل تقليده … وكذلك الجو السوداني الخاص في عوالم الطيب صالح.

التقمُّص موهبة مهمة جدًّا عند الأديب، وأكثر أهميةً عند كاتب المسرح أو السيناريو، وأهميتها لا توصف عند الممثل. في النهاية يظل المحتوى الإنساني هو الأهم والأكثر تأثيرًا، لكنه يصل بشكل أفضل كلما كان الإطار مقنعًا للقارئ.