قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, July 30, 2014

موضوع محلى جدًّا



كل عام وأنت بخير. لو أحيانا الله فلسوف تقرأ هذه الكلمات فى عيد الفطر. كنت أنوى الكتابة عن الشاعر الخطير المتمرد أحمد مطر الذى فقدناه هذا الشهر، أو عن جرح غزة المفتوح الذى ينزف باستمرار، بينما يهلل طربًا بعض رموز آلة ضخ الأكاذيب التى يسمونها الإعلام، ثم رأيت أن على أن أختار موضوعًا أقل قسوة فى العيد. هذه المرة على الأقل.

سوف آخذك اليوم إلى طنطا مدينتى الصغيرة.. أتحاشى دومًا أن أكتب عنها لأنها موضوع شخصى حميم، لكنى أتكلم عنها عندما تكون القضية ذات طابع عام..

المشكلة هى أننا نفتقد طنطا التى كانت.. لا أتكلم عن خمس أو عشر سنوات مضت، بل عن ثلاثين أو أربعين عامًا. كانت طنطا مدينة جميلة، وهو شيء يصعب على أبناء هذا الجيل أن يصدقوه لكنها الحقيقة. حكى لى أبى أنه فى شبابه كان هناك نهر فى شارع البحر فعلاً، وعند بداية الشارع كان هناك مقهى يوناني اسمه ليمنوس –ما زال موجودًا– حيث كان الرافعي يجلس يتأمل النهر ويكتب !

أرى نفسى فى أوائل السبعينيات طفلاً فى المدرسة الابتدائية، ألبس زى المدرسة المميز والذى كنا نسميه (المريولة) وهى مصنوعة من قماش كانوا يسمونه (تيل نادية)، ولا أعرف من هى نادية التى كانت تنسج كل هذه الكميات من القماش. شارع البحر فى طنطا واسع مريح تتناثر فيه أشجار البونسيانا، وتلك الأشجار الأخرى التى لا أعرف اسمها بالضبط، لكن لها ثمرة تشبه قرن الخروب العملاق. أمر على المكتبة لأبتاع علبة أقلام الألوان إياها التى رسمت عليها كرات حمراء وصفراء.. رائحة الخشب العذبة. هناك ممر وسط حديقة غناء، تشق طريقك فيه بين الهداهد والضفادع المتواثبة.. أذكر أننى كنت أرى هدهدًا كل يوم. بنايات عتيقة جميلة يمكنك أن تتخيل عبد الوهاب واقفًا بالطربوش على مدخل بناية منها.. ثم فجأة جاءت البلدوزرات والجرافات.. فجأة تهاوى هذا كله لينبت –كشياطين الجحيم– أقبح مول يمكن أن تراه فى حياتك........

هل تذكر سينما جندولا فى طنطا؟.. من يذكرها هناك عند تقاطع شارعى الحلو وحسن رضوان؟.. كنت أعتبرها مسكنًا يقيم فيه دراكولا وطرزان وجيمس بوند.. وكنت أمشى صباحًا أتحسس الجدران فى تقديس وأتخيل أنهم نائمون بالداخل يستريحون حتى المساء.. ثم هدموها وحولوها لمقهى..

الأحلام كانت تنتظرنى فى سينما أوبرا.. المساحة المفتوحة والجلوس فى هواء مساء الصيف العليل، تنتظر سقوط الشعاع على الشاشة. تبدأ الصورة باهتة ضعيفة، ثم تتحسن مع الوقت والظلام.. وفجأة انتهى كل شيء وصارت قاعة أفراح غارقة فى العرق والأغانى إياها.

تستمر التغيرات الجيولوجية وتتحرك الطبقات.. وتتراكم الصخور المتحولة والرسوبية. اعتدنا أن يتم تجديد الرصيف أمام المحافظة عدة مرات كل عام.. دائمًا هناك تجديد أمام المحافظة بينما يتم تجاهل أحياء مغضوب عليها مثل العجيزى والقرشى وسيجر. اعتدنا أن تكون الغربية مجرد محطة يتدرب فيها المحافظ على فنون (المحافظة) قبل أن يصير محافظًا للجيزة. وهناك محافظون لم نعرفهم ولم نرهم قط...

ما حدث فى طنطا مؤخرًا هو حملة لتوسيع شارع البحر.. وهى أنشط ما تم فى المحافظة منذ عقود. صحونا لنجد أن أشجار شارع البحر الجميلة التى بلغ عمرها مائتى عام ولابد أن الرافعي كان يمشى تحتها، أو مصطفى كامل عندما يأتى من قريته كتامة بمركز بسيون، أو الشهيد عبد المنعم رياض عندما يترك قريته سبرباى.. ترى هل كان محمد فوزى يجلس بالعود ليعزف تحت تلك الأشجار؟.. كان المشهد مؤسيًا بحق. فى مقال تال سوف أتكلم عن د. ميشيل حنا والنعي الذى يكتبه عن كل بناية أو شجرة تهوي فى مصر الجديدة أو الأسكندرية. لا شك أن هناك أكثر من تاجر أخشاب صنعوا ثروة من هذا التراث المذبوح.

كارثة بيئية لا شك فيها. لم يعد مهمًا أن تعرف اسم تلك الشجرة التى لها ثمرة تشبه قرن الخروب العملاق، فهى لم تعد موجودة على كل حال.

تمت توسعة شارع البحر، والحقيقة أن هناك نتائج إيجابية ونتائج سلبية..

المرور صار أكثر تدفقًا وسرعة بالتأكيد.. لكن قال لى سائق سيارة أجرة: المخرج نفسه ضيق فلم تحل المشكلة.. كأنك توسع ماسورة المياه بينما البالوعة نفسها ضيقة..

هناك نصب تذكارى قبيح جدًا أمام المحافظة.. الشكل المتعارف عليه على أنه (فن) كما يلقنون لنا فى المدارس؛ على طريقة (الترس – ويد تعمل ويد تحمل السلاح – وحمامة السلام.. إلخ)، وهناك نافورة يستخدمها الأطفال العراة للاستحمام ويملأ منها سائقو التاكسى الرادياتور..

مشكلة الطريق هى أنه تحول لشارع صلاح سالم بالضبط.. هناك 12 حارة تندفع فيها السيارات بسرعة جنونية.. لا توجد أماكن لعبور المشاة أو كبارى أو إشارات مرور، وعبور الطريق مقامرة بحياتك لا شك فيها، أما بالنسبة لكبار السن أو بطيئى الحركة فهو مستحيل. ودّع ابنك وقبله إذا كان سيعبر شارع البحر ليذهب لمدرسته. هناك من يعبر دون أن ينظر معتبرًا أن هذا قدره ولن يعيش يومًا واحدًا بعد أجله. وأعرف كثيرين ممن يوقفون سيارة أجرة فقط ليستطيعوا العبور للجانب الآخر. لا يمكن أن تتجاوز السرعة داخل المدن 40 كيلومترًا فى الساعة، لكننا بالفعل نرى سرعات تقترب من الثمانين. لهذا يسقط كل يوم قتيل جديد تحت عجلات سيارة مندفعة. هناك مطبات صناعية لكنها قليلة وغير كافية كما أنها لا تعكس نورًا فوسفوريًا.. أى أن السائق يفاجأ بها وهو مندفع.

الحدائق فى شارع البحر كانت متنفسًا رخيصًا للكثير من الأسر.. لم يعد هذا واردًا اليوم. سوف يتصرف سكان طنطا بطريقة مختلفة فى الأعياد... سنعرف ما سيفعلونه هذا العام.

المنحنيات مرسومة بشكل خاطئ، وهناك منحنى عجيب الشكل أمام صيدناوى بشارع البحر يفضل كل السائقين أن يعبروه فى الاتجاه المعاكس، وهكذا يمكن أن تحدث مذبحة كل خمس دقائق. كما أن مستوى الرصف سيئ فعلاً.

لا ينبغى أن يفتش المرء عن السلبيات فقط، فهناك نقطة إيجابية لا شك فيها هى تدفق المرور فى ذلك الشارع الحيوى، لكننا نطالب المحافظة بأن تجعل عبور هذا الشارع ممكنًا، ثم تنسى شارع البحر قليلاً وتبدأ العناية بباقى شوارع هذه المدينة البائسة..

وكل عام وأنتم بخير