قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, October 6, 2014

اجعلهم يمرضون



الكلاب تنبح فى الطرقات، ولا صوت سوى صوت أقدامنا على الأسفلت.. بينما بدأ المطر ينهمر .. إنها الثالثة بعد منتصف الليل، وأنا ألهث لأن الشاب – ابن الحاجة عفاف – الذى يمشى بجوارى يتمتع بلياقة عالية. فى النهاية ندخل تلك الحارة المظلمة لا يضيئها سوى مصباح واهن على باب بيت. فأر مذعور يركض جوار قدمى متواريًا، ثم نجتاز بابًا مفتوحًا .. كل شيء يشى بالموت ودنو لحظة الفراق الكئيبة.

كان هذا فى الزمن الذى كنت أقوم فيه بفحوص منزلية، وهذا يعنى أننا كنا فى النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وقد استدعيت لهذا الكشف عن طريق مستوصف أعمل فيه. كنت أعيش وحيدًا وقتها، وليس هناك من يقلق لخروجى فى ساعة كهذه أو يرتاب فيه، وحتى لو تم خطفى وذبحونى وألقوا جثتى للكلاب، فعلى الأرجح لن يلاحظ ذلك أحد .. الأهم أن اللصوص والسفاحين لا يلاحظون وجودى كذلك

حشد من الأطفال المذعورين يحيطون بك، وفى داخل البيت الفقير متهالك الأثاث تتصاعد رائحة الدخان من عشرات اللفافات المشتعلة، وترى الوجوه المعتادة فى أمور كهذه.. كلهم جاءوا للدفن.. الأعمام والأخ، والحاج فلان ابن الحتة الجدع الذى لا يترك جيرانه فى كارثة كهذه. لابد من وجود لبيب كذلك .. لبيب صديق الأسرة الذى يعرف هذه الأمور، وهو من سيأتى بمن يقوم بالغسل ويبتاع الكفن. هناك دائمًا لبيب فى كل أسرة، وعند المسلمين والمسيحيين سواء

دخلت متوجسًا إلى غرفة نوم ضيقة بائسة لأجد تلك السيدة المسنة – الحاجة عفاف – فى الفراش .. مريضة جدًا كما هو واضح، لكنى لا أستطيع أن أضع يدى على شيء ما.. حاولت انتزاع أى كلمات منهم أو منها بلا جدوى.  الفحص سليم تمامًا .. ضغط الدم أفضل مني .. الحرارة عادية .. التنفس منتظم .. جاءوا لى بعينة من بولها فى كوب زجاجى كى أفحصه بحثًا عن سكر او أسيتون.  لا شيء.  صحيح أنهم جاءوا لي بعدها بمياه غازية على سبيل الضيافة، و قد وضعوا المياه الغازية فى كوب مماثل لكوب البول تمامًا !، لكنهم أناس طيبون ورقيقو الحال لا شك فى هذا

فى النهاية قالوا لى وهم يرتجفون إن الطبيب الفلانى أجرى لها فحصًا بالأشعة الصوتية وقال إن هناك نسبة تليف فى الكبد..  وقال آخر إن الأملاح عالية فى دمها

هكذا فهمت .. طلبت أشعة تليفزيونية أخرى وجمعت حاجياتى لأنصرف، مفكرًا فى رحلة العودة المرعبة. سألونى عن أجرى فرفضت .. هى ليست مريضة وبالتالى أنا لم أفعل شيئًا .. فى تلك الأيام كان المرء نقى النفس لا يقبل مالاً إلا إذا أنجز شيئًا ملموسًا .. طبعًا صرت اليوم رجلاً ناضجًا كالآخرين يسعده جدًا المال الذى لا يستحقه .. فقط أريد الكثير منه لو أمكن

فيما بعد عرفت أن الأشعة سليمة تمامًا كما توقعت ... وعرفت أن الحاجة العجوز نهضت ومارست حياتها بشكل طبيعي. لم تكن تلك الليلة هى الليلة كما يقول الغربيون .. لقد جعلها الأطباء تشعر بدنو نهايتها ورقدت فى الفراش تنتظر وهى سليمة

فيما بعد رأيت من الأطباء من يرسل المريض ليجرى تحليل صورة دم، ثم يعلن – قبل أن يرى التحليل – أن المريض مصاب بفقر دم، ويكتب له أقراص الحديد.  هو كان ينوى عمل هذا منذ اللحظة الأولى، لكن لابد من هذه الطقوس، وبرغم أن الحديد لا يناسب كل أنواع فقر الدم، بل إنه يؤذى بعض الأنواع. هناك الطبيب الذى يرسل المريض ليحلل نسبة حمض البوليك فى الدم، ومهما كانت النتيجة يعتبر أن المريض مصاب بالنقرس، ويدخله فى دائرة منع اللحوم والكبد والشاى والقهوة والتدخين

اختبار فيدال اختبار قديم فاشل يقيس وجود البكتريا التى تسبب حمى التيفود. لاحظ أن اسمها حمى التيفود.. أى أن المريض يجب أن يكون محمومًا، ويجب أن يكون محمومًا منذ أسبوع على الأقل. لكن الأطباء يجرون اختبار فيدال لأى مريض يشكو من أى شيء حتى لو كانت حرارته عادية .. تأتى النتيجة مرتفعة غالبًا ولا قيمة لها على الإطلاق .. فيقول للمريض: "أنت مصاب بنسبة تيفود فى الدم".. الآن لم يعد المريض شخصا عاديًا. لقد صار (صاحب عيا) وهو يمشى حاملاً الأبحاث قلقًا، يفكر كل ليلة فى الرقم الذى وصلت له نسبة التيفود اليوم، ويتعاطى أطنانًا من المضادات الحيوية الغالية وهو ليس مريضًا أصلاً.

أستاذنا السكندرى العظيم حلمى أباظة قال لنا ساخرًا: "مصر ليست مصابة بوباء تيفود .. مصر مصابة بوباء فيدال!"

هناك موضة أخرى هى ما يسمونه اختبار بلهارسيا الدم، وهو اختبار لا قيمة له بدوره .. يخبرك فقط أن المريض أصيب ببلهارسيا يومًا ما، أى أنه موجب لدى كل من عاش فى قرية، لكنه جلب ثروة طائلة للمختبرات .. وترى المريض يمشى مهمومًا كاسف البال يحمل مظروفًا سميكًا ويخبرك أنه مصاب ببلهارسيا الدم. طبعًا سوف يجرى أشعة تليفزيونية فيقال له إن هناك نسبة تليف فى الكبد، من ثم يكتب وصيته ويبتاع كفنًا

العيادات تلعب لعبة قاسية، هى أن تجعل الأصحاء يشعرون بأنهم مرضى جدًا .. ربما هى الحاجة للكسب والضغوط المادية الطاحنة،  وربما هى الرغبة فى أن يكون هناك (أكشن).   أن يعيش المريض لحظات درامية قاسية إلى ان يقول له الطبيب باسمًا: مبروك .. اختفت بلهارسيا الدم !

اخلق مرضًا لا وجود له ثم عالج المريض منه .. للأسف هذه هى قاعدة العمل لدى أطباء كثيرين. والمشكلة الأكبر أن هناك مرضى يحبون جدًا أن يشعروا أنهم مرضى، وأن حالتهم خطرة، ويكرهون بجنون الطبيب الذى يخبرهم أنهم بخير .. سوف أتحدث عنهم فى مقال قادم إن شاء الله