قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, October 14, 2014

أحجية روائية


ليس ما أتكلم عنه هنا هو النهايات المفتوحة؛ فالقصة ذات النهاية المفتوحة المتروكة لخيال القارئ شهيرة ومألوفة. الحقيقة أنها أقرب لمنطق الحياة، خاصة عندما تكون كل الحلول التي يمكن أن يفكر فيها المؤلف سخيفة غير مقنِعة. هنا يلجأ المؤلف للصمت البليغ، ويترك القارئ يكمل هو، على طريقة عادل إمام في فيلم «حسن ومرقص» عندما يتلقى سؤالًا دينيًّا صعبًا وهو لا يعرف شيئًا عن الفقه، فيقول كمن يختبر الجالسين: هو الدين بيقول إيه هنا؟ النتيجة هي أن الجالسين يقدمون له إجابة ممتازة ما كان ليحلُم بها. ينطبق هذا على القصص كذلك، فخيال القارئ قد يكون أبرع من المؤلف بكثير. أحيانًا تبدو النهاية مفتوحةً لكنها ليست كذلك: الفتاة تفتح الباب لتجد مصاص الدماء واقفًا وهو يضحك. هذه ليست نهاية مفتوحة طبعًا؛ فكل طفل يعرف ما سيحدث. ليست كل النهايات التي تبدو مفتوحةً مفتوحةً، وإنما حُذِفَتْ لاعتبارات بلاغية.


على أن الأمر قد يتجاوز هذا أحيانًا إلى اعتراف المؤلف — بفخر وبأعلى صوته وبلا تحفُّظ — أنه غير قادر على استكمال القصة، وهذه هي قصص الأحجية Riddle التي لا يعتبرها البعض أدبًا أصلًا، بل هي أقرب إلى الفوازير التي تنشرها المجلات في آخر صفحتين. لكنَّ هناك تجربتين شهيرتين تحملان الكثير من الجودة الأدبية.

التجرِبة الأولى هي «الفتاةُ أَمِ النَّمِرُ» قصة الأديب الأمريكي فرانك ستوكتون، وهي قصة ذائعة الصيت؛ لدرجة أن تعبير «الفتاة أمِ النمرُ» صار تعبيرًا لغويًّا يشير للمشاكل غير القابلة للحل.

هناك ملك متوحش من ملوك الأساطير، تفتَّق ذهنه عن طريقة ساديَّة لإعدام المجرمين. على المجرم أن يقف أمام بابين مغلقين… عليه أن يستجمع حدسه وشجاعته كي يختار بابًا من الاثنين. أحد البابين وراءه حسناء يمكن أن يتزوجها الأسير، بل واجبه أن يتزوجها إذا شاء الحياة … الباب الثاني وراءه نمر جائع غاضب. الاختيار سوف يؤكد براءة الرجل أو جرمه … أن يمزقه النمر معناه أنه آثم.

عندما يقبض الملك على أحد الفِتيَة في جناح ابنته، ويدرك أن هذا الوغد من عامة الشعب ويريد الفوز بالأميرة. يكون عقاب الفتى هو الاختيار المعتاد: الفتاة أمِ النمر … عليه أن يختار. ينظر الفتى المذعور حوله، فيرى أن الأميرة حبيبته الجالسة وسط صفوف المشاهدين تشير لباب من البابين إشارة خفية. لا بد أنها تريد له النجاة. هي بالتأكيد تعرف أين يوجد النمر.

هنا مشكلة أخرى: الأميرة غيور جدًّا وحادة الطباع وتنتمي لنسل متوحش، وهي من الطراز الذي يفضل أن يموت حبيبها على أن يتزوج فتاة أخرى، فما بالك وهي تعرف الحسناء الواقفة خلف الباب وتكرهها؟ فهل انتصرت المرأة الغيور أم انتصرت الأميرة المُحِبَّة؟ في الحالين هي تعرف أنها فقدته وأنه لن يصير لها أبدًا.

هل يطيعها ويصدق إشارتها أم يختار الباب الآخر؟

يتجه إلى الباب الذي أشارت له ويفتحه، وهنا يقول ستوكتون: «أنا آسف … لا أستطيع أن أتوقع النتيجة، ولا أعرف ما الذي خرج من الباب: الفتاة أم النمر؟» وتنتهي القصة!

القصة أثارت غيظ القراء على مدى التاريخ منذ كُتِبَتْ، لكنها كذلك شحذت ذكاءهم وجعلتهم يُمعِنون في الاستنتاج، فرأت النساء أن المرأة مضحِّيَة بطبعها وتفضل أن يَنعم حبيبها في أحضانِ أخرى ما دام حيًّا، بينما رأى الرجال أن هذا هو طبع المرأة … تُفضِّل أن يُمزِّق النَّمِرُ حبيبَها على أن يعيش مع امرأة أخرى.

التجرِبة الثانية قدَّمها الساخر الأمريكي العظيم مارك توين في قصة قصيرة اسمها «قصة من العصور الوسطى» في العام 1222 هناك أميران … أحدهما دوق براندبورج والآخر سيد كلوجنشتاينز. أوصى أبو الأميرين قبل موته بأنه لو لم يُنجب دوق براندبورج ابنًا فالمملكة تنتقل لسيد كلوجنشتاينز. لو لم ينجب الأخوان أولادًا ذكورًا فإن المملكة تنتقل لابنة دوق براندبورج، وبشرط أن تحافظ على عفتها. فإن لم يكن فابنة سيد كلوجنشتاينز هي التي تنتقل لها المملكة.

كان سيد كلوجنشتاينز طامحًا في الحكم، خصوصًا أن أخاه دوق براندبورج لم ينجب ذكورًا، ودَعَا سيد كلوجنشتاينز الله أن يرزقه بولد فلم تنجب زوجته إلا ابنة. كان الرجل سريع التفكير … أعدم الخادمات والقابلة اللاتي شهِدْنَ مولد الفتاة وأعلن أنه أنجب ابنًا ذكرًا. وألبس ابنته ثياب ولد وأسماها كونراد، وعاشت حياة الفتيان منذ أول يوم في حياتها…

لقد صارت الثمرة دانية القِطَاف، ولسوف يتم تتويج كونراد ليكون ملكًا… بعدها يمكن الإعلان عن شخصيته. فقط هناك احتياط مهم: القانون يقضي بإعدام أي امرأة تجلس على كرسي العرش ما لم تكن ملكةَ البلاد صراحة. على كونراد الذي هو فتاة ألَّا يجلس على هذا المقعد أبدًا إلا بعد تتويجه. بالإضافة لهذا اتخذ الأب الشرير احتياطه… أرسل إلى أخيه فارسًا وسيمًا اسمه الأمير دتزين يقيم عنده. والهدف هو أن تقع الأميرة — ابنة أخيه — في حب الفارس وتتلوث… هكذا لا يصير من حقها اعتلاء العرش أبدًا.

بالفعل تحمل الأميرة ابنة الأخِ من عشيقها الوسيم الذي يهرب من البلاد. يصل كونراد إلى بيت عمه ويتعامل باعتباره فتًى مكتمل الرجولة، ويحبه الجميع، لكن طبيعة الأنثى فيه تجعله أكثر الْتصاقًا بالأميرة ابنة عمه. ثم تأتي اللحظة المحتومة عندما تلد الأميرة طفلها غير الشرعي ابن دتزين، ويكلف أبوها ابن عمها الوسيم كونراد بأن يرأس محاكمتها … فعلى من يرأس المحاكمة أن يجلس إلى كرسي العرش! هكذا يجلس كونراد إلى الكرسي مرغمًا، عالمًا أنه لو عرَف الناس أنه فتاة فلسوف يُعدم بلا مناقشة. لا بأس… إنْ هي إلا أيامٌ ويصير ملكًا ويعلن السر الذي أخفاه طيلة حياته.

تطلب هيئة المحكمة من الأميرة أن تعلن اسم والد الطفل حتى لا يُقطع عنقها … تفكر بعض الوقت ثم تنظر في كراهية وحِقْدٍ لابن عمها كونراد الجالس على العرش وتقول: «أنت والد الطفل!»

طبعًا يمكن إثبات كذبها لو نزع كونراد التنكُّر ليعرف الناس أنه فتاة. لكن هناك مشكلة هي أنه جلس على العرش قبل التتويج… لو قال إنه فتاة فلسوف يُعدم فورًا كما يقضي القانون…

بينما القارئ ينتظر محبوس الأنفاس، يقول مارك توين: «للأسف لن تجد بقية هذه القصة في هذا الكتاب ولا أي كتاب آخر ولا في أي وقت في المستقبل. الحقيقة هي أنني وضعت بطلي (أو بطلتي) في ورطة معقدة، ولا أعرف كيف أخرجه منها؛ لهذا أتخلى عن المهمة كلها وأترك للبطل أن يخرج من ورطته بأفضل طريقة يتوصل لها. ظننتُ الأمر سهلًا ثم تبينتُ أنه عسير جدًّا»

هذا يذكرنا بالمعضلات الكريتانية الشهيرة في المنطق مثل: حلاق القرية لا يحلق إلا للرجال الذين لا يحلقون لأنفسهم … أين يحلق هو؟ لو حلق لنفسه إذن فلا يمكنه أن يحلق لنفسه … لو لم يحلق لنفسه فعليه أن يحلق لنفسه!

حتى في فن السينما سوف تجد أمثلة عديدة لقصة الأحجية، لعل أشهرها نهاية فيلم «العملية الإيطالية 1969» من بطولة مايكل كين، حيث تنزلق الحافلة التي تحمل سبائك الذهب لتقف بالضبط في وضع ميزان على حافة الهاوية. اللصوص في ناحية والذهب في ناحية أخرى. أي حركة ستسقط الحافلة في الهاوية … ينتهي الفيلم هنا؛ لأن المؤلف لم يجد حلًّا. وفيما بعدُ حاول كثيرون حل المشكلة وأولهم مايكل كين نفسه الذي اقترح أن يعمل محرك الحافلة إلى أن يفرغ من الوقود فيصير جزء الخزان خفيفًا.

لا أعرف حظ هذه القصص من الأدب، لكنها تسبب لك مرحلة غيظ أولية إجبارية، ثم تكتشف أنها ممتعة وذكية فعلًا