قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, October 28, 2014

الأكسجين والشمعة


في قصة «توم صوير» رائعة مارك توين، يحكي الكاتب الساخر عن صبيٍّ في الصف — زميل توم صوير — كان المدرسون يفخرون به؛ لأنه يحفظ أجزاءً كبيرة من التوراة، ويقول إن الضغط العقلي المُرهِق أصاب الغلام بنوع من الخبال، فلم يعُد بوسع المعلمين أن يعتمدوا عليه عندما يأتي مسئول كبير لزيارة المدرسة. بالطبع أخلى هذا الجوَّ لتوم صوير كي يلعب لُعبته الكبرى، ويتظاهر بأنه يحفظ معظم التوراة … إلخ


مارك توين كاتبٌ ساخر بالطبع، لكنه يتحدَّث عن نقطةٍ تقلقني كلما رأيتُ طفلًا عبقريًّا أكثر من اللازم. أشعر أحيانًا أن هذا غير طبيعي، وأن الضغط العقلي قد يُحرق هذا المخ الغض.

في موقع غربي رأيت طفلةً يابانية في الخامسة، تجلس إلى البيانو وهي متصلِّبة صارمة الوجه، وتبدأ في عزف مقطوعة صعبة جدًّا لبيتهوفن. لمَّا دقَّقت في وجهها رأيت نظرةً تُجمِّد العروق، كأنها روبوت عبقري مُتقَن الصنع. علَّقتُ وقتها في الموقع قائلًا بالإنجليزية: «لا تُقنعْني أن طفلةَ الخمس السنوات هذه سوف تكون طبيعية عندما تكبَر. إنها شمعة وسط محيط من الأكسجين، وسوف تحترق بوهجٍ ساطع حارق ثم تذبل بسرعة. أنا أومن أن الأطفال يجب أن يجذبوا ذيول القِطط، ويصنعوا كعكًا من الوحل، ويجب أن ينعموا بطفولة سخيفة كاملة. حتى إن كانوا موهوبين جدًّا فليفعلوا هذه الأمور جوار موهبتهم. أحيانًا أشعر أن هذه الطفلة ضحيةُ أبوَيْن يريدان أن يشعُرا بالفخر، وأن يؤثِّرا في أصدقاء الأسرة، الذين سيُحيلون حياة أطفالهم جحيمًا …»

بالطبع تلقَّيت الكثير من الشتائم، وهناك خبراء تربويون قالوا إنني لا أفقَهُ شيئًا، لكنَّ كثيرين كذلك وافقوني على رأيي. على كل حال أؤكد لك أنني أتكلم من منطقِ فكرِي الخاص، ولا أعرف رأي التربويين وعلماء النفس في الموضوع.

في قصة «قرية الملاعين» للكاتب البريطاني جون وندهام، تحلُّ لعنةٌ فضائية بنساء القرية، فيَلِدْنَ جيلًا من أطفال عباقرة صارِمِي الملامح، لا يلعبون ولا يضحكون أبدًا. هذا مرعبٌ فعلًا ويثير التوجُّس أكثر من أي شيء آخر. العبقرية المبكِّرة جدًّا والتي تجعل الطفل يفقد الكثير من طفولته … هذه العبقرية لا تريحني جدًّا، ولربما تصيبني بالهلع.

كان لي صديق عزيز لديه ابنة عبقرية وأديبة بارعة فعلًا؛ لدرجة أنها كانت في سن التاسعة قادرةً على كتابة قصص تُبكيك، وهكذا ظَلَلْتُ قلقًا عليها. أخبرني أبوها أنها تلعب الكرة وتعشق ركوب الدرَّاجات، ولديها مجموعةُ دُمًى ممتازة … هكذا شعرتُ بنوع من الطمأنينة عليها!

الموهبة القوية التي تحرق صاحبها في سِنٍّ مبكِّرة، كشمعةٍ في محيطٍ من الأكسجين. هذه هي الصورة التي تخيفني بشدة. حتى على مستوى السينما، تأمَّلْ ما صار له ماكولاي كالكين بطل «وحدي في المنزل»، وريكي شرودر بطل «البطل»، ومارك لستر بطل «أوليفر».

في الأدب العالمي يثِب للذهن على الفور اسم ماريا بشكرتسيف. عرفتُ مراهقةً مصرية صغيرة السن موهوبةً جدًّا في الشعر، فقلت لها: أنت تُذَكِّرِينَنِي جدًّا بماريا بشكرتسيف. ولم يكن هذا إطراءً بقدر ما هو نبوءة شريرة أحمَد الله أنها لم تتحقق. كانت ماريا عبقرية صغيرة السن من أوكرانيا، وُلِدَتْ عام ١٨٥٨. في سن الثالثة عشرة كانت شاعرةً ونحَّاتة ورسَّامة، ولها لوحة شهيرة اسمها «أطفال الأزِقَّة». كنت أعرف أن هذه اللوحة في متحف أورساي بباريس — الذي يضم أعمال التأثيريين — وبحثت عنها كثيرًا هناك لأرى بعينيَّ مدى عبقرية هذه الفتاة. وكانت لها مذكرات شهيرة اسمها «أنا أهم كتاب على الإطلاق»، ومراسلات مع سيد القصة القصيرة جي دي موباسان. قالت عن نفسها: «يبدو لي أنه ما من إنسان على الأرض يستطيع أن يُحِبَّ مثلي جميع الأشياء؛ إنني أعشق الفنون والموسيقا والتصوير والكتب والعالَم بأسره، وأحب التَّرَف، والضجيج والسكون، والضحك والحزن، وأحب الهموم والبهجة والحب والبرد والشمس. أحب جميع الفصول، وكل ما يطرأ على الجو من أنواء. إنني أعبُد كل شيء، ويستهويني كل شيء؛ فالكل يتراءى لي في وجوه رائعة …»

كانت شمعةً احترقت بسرعة جدًّا حتى ماتت بالدرن في سن الخامسة والعشرين ودُفِنَتْ في باريس … أنا أومن أنها لو وُلِدَتْ في عصر الريفامبيسيين والستربتومايسين والأيزونيازيد، لاحترقت بشيءٍ آخر غير الدرن. ربما الإيدز أو ورم المخ.

الشمعة الثانية التي أتذكَّرها هي أبو القاسم الشابي؛ الشاعر التونسي العظيم الذي وُلِدَ عام ١٩٠٩. هذا الشاعر غيَّر في عمره القصير تاريخَ الشعر العربي، وله أبيات لها قوة الرَّصاص يحفظها الجميع. مَن الذي لا يعرف «إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر»؟ أو «عذبةٌ أنت كالطفولة … كالأحلام … كاللحن … كالصباح الجديد»؟ عندما أرسل أشعاره لجماعة الديوان في مصر — التي شكَّلها العقاد والمازني — أصابهما الذهول وزفَّا للأمة ميلاد هذا العبقري الجديد، لكن الخبر في العدد التالي من المجلة كان وفاة هذا الشاعر المذهل بداء القلب عام ١٩٣٤؛ أي في سن الخامسة والعشرين. كان قلبه واهنًا منذ وُلِدَ.

قدر مذهل من العبقرية كان لا بد معه أن يحترق، حتى لو أجرى كل جراحات القلب المعروفة.

خذ عندك العبقري الثالث الذي توهَّج في سِنٍّ صغيرة جدًّا: وولفجانج موتسارت، ابن سالزبورج الذي مات في عمر الخامسة والثلاثين، بعدما أشعل بموسيقاه أوروبا كلها.

دائمًا يحكون عن موتسارت كنموذج للطفل العبقري الذي كتب أول سيمفونية في سن السادسة، وقاد الأوركسترا في سن السابعة. وأخذه أبوه في جولة كبرى عبر أوروبا حيث أثار ذهول الجميع. قضى حياته كلها بين اللهو والمجون والخمر والموسيقا، وقد اشتعلت شمعته من الطرفين، وذبلت بسرعة فائقة.

الأمثلة كثيرة ولا تنتهي … ما أريد قوله هو أنه من الأفضل أن تترك أطفالك يعيشون طفولتهم، ولا تضع على عاتقهم عبئًا لا طاقة لهم به، ولا تفرض عليهم تصوُّرَك الخاص لِمَا ينبغي أن يكون عليه الطفل. هناك لمسةٌ أنانية لا شك فيها في أمور كهذه، كأنك تدمِّر طفولة الصغير لتُرضي كبرياءك لا أكثر.

أمَّا إن كانت الموهبة لدى الطفل قوية أصلًا، وتنمو دون جُهد منك، فلترقُبْه في حذرٍ، ولتَدْعُ اللهَ ألَّا تحرقَه هذه الموهبة العظيمة. ليكُن أفضل حظًّا من الشابي وماريا بشكرتسيف؛ فقد منحانا الكثير من الفن الرائع، لكني أعتقد أنهما لم يذوقا السعادة يومًا واحدًا