قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, October 7, 2014

معايدة وشكر وأشياء أخرى

التحرير - 7 أكتوبر 2014


معايدة: كل عام وأنت بخير. سوف تقرأ هذه السطور فى ثالث أيام عيد الأضحى المبارك إن شاء الله، وهو يوم حرج نوعا؛ لأنك تكتشف فى هذا اليوم بالذات أن اللحمة خلصت!.. أذكر فى طفولتى كيف كنا نضحى فى أول أيام العيد -لو سمحت الميزانية- ثم أخرج أنا وأبى فى جولة رهيبة فى أزقة طنطا، والشوارع الضيقة المحيطة بالسيد البدوى، ومنطقة سيدي يونس مضيها والشيخة صباح، حيث ترى عينات من الفقر والمرض والحاجة لم تتصور وجودها فى حياتك، وهذا لتوزيع أرغفة الخبز المحشوة باللحم والأرز التى أعدتها أمى فى البيت. بالطبع لم أكن أنا ابن العاشرة أرى أى شيء فى هذه الجولة سوى التنغيص والقرف والقذارة، لكن أبى بطبيعة الحال كان يعتبرها أهم لحظات العيد. وفى المساء تبدأ جولة أخرى لتوزيع اللحم على المعارف، وفى البيت أكوام من اللحم لا تنتهى أبدا...

كنت طفلا مفجوعا فعلا.. فيما بعد قرأت زجلا لعمنا الرائع بيرم التونسى يحكى عن طفل مخبول لسيدة مات ثمانية من أطفالها:
استنظره الموت وفى العيد الكبير طاله. فى اللحم لما أكل من كل ما طاله
أكل فى بيتهم.. وبيت عمه.. وبيت خاله.. ويعيد غداه كل ما يدخل لأهله ضيوف!!

لا أدرى لماذا ذكرنى هذا المقطع بشخص ما!!.

هكذا كان أول وثانى يوم يمران وسط جنة من اللحوم والفت وحساء الضأن. فى اليوم الثالث تضع لى أمى بعض الخضر وقطعة لحم واحدة لكنها كبيرة مشبعة.. فى اليوم الرابع أفاجأ بقطعة لحم فى حجم علبة الثقاب!.. فأصيح فى جزع:
ـ «إيه ده؟ الخروف فين؟»
فتقول أمى بلهجة العارف بالحياة الذى لم يعد يدهشه شىء:
ـ «كل سنة وانت طيب.. خلص!!!»

هل هذا الكائن العملاق الصاخب يمكن أن ينتهى أو ينفد؟ مستحيل.. هناك سرقة فى الموضوع.. هناك خدعة... فلو لم تكن هذه أمى لأبلغت عنها الشرطة، ثم كبرت وعرفت الحقيقة الكئيبة: كل شيء ينتهي...

أنت الآن تعيش هذه اللحظات القاسية الحرجة لو كنت قد نحرت، ولو لم تنحر فما لديك من لحم لن يبقى للأبد. حاول أن تتذكر هذه الحقيقة حتى لا تصاب بخيبة أمل غدا أمام طبق الفاصوليا القرديحى.

شكر: وعكة عابرة من الوعكات التى اعتدتها كثيرا أصابتنى. اضطراب فى ضربات بطين القلب.. سقوط وفقدان وعى.. صدمة كهربية من جهاز ICD.. إفاقة.. عناية مركزة وبحار من الكوردارون.. ملاكي الحارس رقم 1 د. أيمن السعيد فى طنطا.. ثم رحلة للقاهرة وملاكى الحارس رقم 2 د. هيام الدمنهورى فى عين شمس. لا مشكلة.. هذا هو إيقاع حياتى وسوف يستمر إلى أن يكف عن الاستمرار. قلت لقريبة لى إن العثور علي سهل فليس لى سوى مكانين: حفل توقيع أو العناية المركزة. الفكرة هنا أننى تحريت الصمت ولم أخبر شقيقتيّ نفسيهما.. لقد صار الأمر مملا ولا داعى لإزعاج الناس كل مرة، لكن طبيبا فى العناية المركزة من قرائي نشر الخبر على الفيس بوك، وكما توقعت فالفيس بوك اختراع خطر. على من يُضبط فى وضع شائن فى بيت دعارة أن يتوقع أن ترى مصر كلها صورته بالملاءة بعد ربع ساعة. فوجئت أن الفيس بوك يتحدث عن الخطر الذى أمر به، وكان هذا أسبوعا منحوسا توفي فيه الرائع خالد صالح، لذا بدا أن الأمور ممهدة جدا لوفاة خالدين. دعك من وفاة رفعت إسماعيل بطل قصصى الدائم مما جعل الأمر موحيا جدا، وارتفعت نغمة (صلوا من أجله فهو يواجه لحظاته الأخيرة)، ولو كان لدي أدنى حس درامي أو ذرة خجل لمت فعلا.

لكن سيلا من الرسائل والمكالمات انهمر على.. واتصلت بى شقيقتي تتساءل لأنها عرفت الخبر من ابنتها فى السعودية. كما اتصل بي دكتور جابر عصفور وزير الثقافة يتصل بى ليطمئن، عارضا أى مساعدة، ولم أجد الوقت الكافي لأخبره أننى أحفظ كل حرف فى كتابه المهم (زمن الرواية). فيض من الحب والقلق الذى انهمر علي من الجميع حتى أيقنت أى رجل سعيد الحظ أنا. ودعوت الله ألا أخيب أمل هؤلاء فيّ أو أفقد محبتهم، وإن هذا لعسير جدا مع الشباب لأنهم شديدو الحساسية، يحبونك بشدة ويكرهونك بعنف.

فى حكايات (توم صوير) رائعة مارك توين، اعتقدت البلدة كلها أن توم صوير قد مات غرقا هو وصاحبه هاكلبرى فان، لذا أقيم له حفل تأبين فى الكنيسة، وقد تسلل هو للمأتم مع هاكلبرى فان وسمع ما قاله الناس عنه.. الناس الذين كانوا كرماء جدا معه بعد وفاته، ووصفوه بالملاك الطاهر وحكوا كم كان طفلا نبيلا حساسا. كانت هذه أمتع ساعة فى حياة الصبى، وقد اختار لحظة مناسبة ليظهر فلم يلمه أحد بل انهالوا عليه بالقبلات. فى مرة أخرى كتب الساخر الجميل (محمد عفيفي) نعيه للقارئ فى عموده الأسبوعي فى جريدة الأخبار، وهكذا انهمرت المكالمات المذعورة، فالشتائم عندما أدركوا أنه ما زال حيا. اعتذر هو فيما بعد بأنه مقال كتبه لنفسه لينشر بعد موته، ونسي وأرسله للمطبعة.. إلخ.. تفسير واه جدا لا أبتلعه. أعتقد أنه أراد أن يمارس ذات مشاعر توم صوير وأن يحضر مأتمه الخاص. عندما مات رفعت إسماعيل بطل قصصى انهالت عبارات الرثاء والعزاء، وغالبا ما كانوا يختارون لى صورة باهتة بالأبيض والأسود فوق كلمات الرثاء، مما كان يسبب لى مشاعر غريبة فى كل مرة!! مع رفعت إسماعيل جربت مشاعر توم صوير مرارا.

الخلاصة.. أننى بخير والحمدلله.. حب الأصدقاء واهتمامهم هم حصاد الرحلة. فى المرة القادمة سوف أحرص على ألا يتسرب أى شيء للفيس بوك بأى شكل، لأن الحياة مزعجة بما يكفي فلن نضيف لها المشاكل الصحية لأى واحد مهما كان. وكل عام وأنت بخير قبل أن ينفد الخروف!