قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, November 10, 2014

ألعاب المنطق - 1


هذا كتابٌ ساحرٌ صدَرَ في صَمْتٍ عام ٢٠٠٧ من المجلس الأعلى للثقافة، وكتَبَهُ عادل مصطفى. اسم الكتاب هو «المغالطات المنطقية: طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي». ويبدأ الكتاب بعبارةٍ مقتبَسَةٍ من شوبنهاور، تُلَخِّص بالضبط السببَ الذي جعلني أُقَرِّر عَرْضَ هذا الكتاب هنا:
كم يكون رائعًا لو أمكننا أن نُقَيِّض لكلِّ خدعةٍ جدليةٍ اسمًا مختصَرًا وبيِّنَ الملاءمة؛ بحيث يتسنَّى لنا كُلَّما ارتكب أَحَدٌ هذه الخُدعةَ اللعينةَ أو تلك، أن نوبِّخه عليها للتوِّ واللحظة


هذا هو بيت القصيد؛ كثيرًا ما يشعُر المرء بمغالطة واضحة في سياق الكلام، لكنه لا يَجِد الكلمات كي يصِفَها أو يُعَبِّر عنها. هذا الكتاب محاولةٌ لتنظيم وتبويب السخافات التي نعيش فيها، وما أحوجنا لذلك في عصر الخبال هذا! بالطبع هو كتابٌ ضخمٌ شديدُ التعقيدِ ولا يمكن تلخيصُه بحال، لكني أُقَدِّم لك هنا طُعمًا يدفعك للبحث عنه، فشرائه، فقراءتِه، فالاحتفاظِ به في مكانٍ قريبٍ؛ لأنك ستعود له مرارًا. المؤلف يشرح في بداية كتابه مفهومَ المنطقِ غيرِ الصُّوريِّ، ومعنى ربط التعليم بالتساؤل النقديِّ الذي يُمَكِّنُ الطالبَ من تمحيص الأفكار والدفاع عنها. إنَّ فنَّ المغالطات المنطقية فنٌّ قديمٌ مارَسَه أفلاطون وأرسطو ثم يأتي بعدَهُما جون لوك وشوبنهاور. لا يكفي أن تُخْبِر الإنسانَ أنَّه عُرضةٌ للخطأ، بل يجب كذلك أن تكشف له عن حقيقة هذا الخطأ. الانسياق وراء رأي الجماهير خطأٌ شائعٌ اسمه ad populum ولا يدلُّ على الحقِّ. فهتلر الذي دمَّرَ ألمانيا وصَلَ للحكم بأغلبيةٍ ساحقةٍ، وقد فاز الرِّقُّ يومًا بتأييد أغلبية الولايات الأمريكية، وكان الجميع يؤمنون أنَّ الأرضَ مركزُ الكونِ باستثناء جاليليو. عليك أن تتعلَّم التفكير بنفسك فلا تَدَعْ أحدًا يفكِّر لك. لا تصدِّقْ كلَّ ما تسمع ونِصْفَ ما ترى. استعدَّ للتخلِّي عن رأيك لو اقتضى الأمر. لا تجعَلْ أمنياتك معيارًا للحق. لا يخلبنَّك زُخْرُفُ الكلام وبلاغتُه فتحسَب هذا هو البرهان.

المصادرة على المطلوب: أي التسليم بالمسألة المطلوب البرهنة عليها من أجل البرهنة عليها! وهذا نوعٌ من الاستدلال الدائريِّ. مثال: «العدالة تحتاج إلى أجورٍ مرتفعةٍ؛ لأنَّه من الحقِّ والصوابِ أن يكون الناس أقدر على الكسب الوفير.» هل هناك خَلَلٌ في العبارة؟ المقدِّمة هي نفسها النتيجة، ومعنى العبارة هو أنَّ العدالة تحتاج إلى زيادة الأجور؛ لأن العدالة تحتاج إلى زيادة الأجور! مثال آخر: «أي شيء أقل كثافةً من الماء يطفو فوقه؛ لأن هذه الأشياء لا يمكن أن تغطس في الماء!» مثال ثالث: «يجب ألَّا نبيع أيَّ شيء من مقتنيات توت عنخ آمون؛ لأن آثار مصر العظيمة ليست للتصدير.» لو دقَّقْتَ لوجدتَ أن العبارة لم تفسِّر لنا سبب عدم بيع الآثار، بل اكتفَتْ بأن قالت إنَّ آثارنا ليست للبيع؛ لأنها ليست للبيع!

ثَمَّةَ فارِقٌ بين الموقف وبين الحجج التي يستند عليها الموقف، وكل من يخلط بين الاثنين يقع دومًا في خطأ المصادرة على المطلوب. تُستعمَل طريقة المصادرة على المطلوب كثيرًا في القضايا الأيدلوجية والأخلاقية، مع استخدام ألفاظٍ فخمةٍ في المقدمات. هناك حتمية إجبارية أو «ينبغية» Oughtness في المقدمات لكنها متوارية خلف الكلمات؛ مثال: «يجب ألَّا نُصدِّر أسلحةً لماليزيا؛ لأنه من الخطأ تزويد الأمم الأخرى بأسلحة القتل.» يُخيَّل لك أن هذه نتيجة منطقية للمقدِّمة، لكن المقدمة هي نفسها النتيجة … أي إن «ق» صادقة؛ لأن «ق» صادقة.

منذ سنواتٍ عديدةٍ في طنطا، أذكر أنَّ أحد المرشحين لانتخابات البرلمان كان متهمًا من العامة بأنه يَزرع البانجو؛ فكان أنْ طَبَعَ ملصقًا وزَّعه في كلِّ مكانٍ يقول: «أنا لا أزرع البانجو؛ لأن زرع البانجو محرَّم قانونًا.» لا يوجد منطق لهذه العبارة ولا معنى؛ فكثير من الناس يخالفون القانون. لكنها بدت للناس مقنعة جدًّا.

هناك نموذج آخر من المغالطات هو الحلقة المفرَغة أو الاستدلال الدائري. هنا تعتمد المقدمة على النتيجة وتعتمد النتيجة على المقدمة. مثال: «أنا لم أفعلها يا سيدي المعلم … زميلي عليَّ يشهد إنني صادق … ومَنْ قال إنَّ عليًّا صادقٌ؟!» أو: «أنا أكلِّفك بهذه المهمة لكفاءتك … شكرًا يا سيدي، ولكن لماذا تعتبرني ذا كفاءة؟ … لو لم تكن ذا كفاءة لما عهدتُ لك بهذه المهمة!» ليست كلُّ الحججِ الدائريَّةِ فاسدةً بل تعتمد على السياق. عندما تدور مناقشةٌ بين شخصٍ متديِّنٍ وبين شخصٍ ملحِدٍ، فقد يقول المتديِّن إن القرآن لن يُحَرَّفَ إلى يوم القيامة … لماذا؟ … لأن الله تعالى قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). الملحد لا يؤمِن بأن القرآن كلمات الله أصلًا، وهذا يجعل الأمر استدلالًا بالدوائر. أما لو دارت نفس المحادثة بين اثنين متدينين يؤمِنَان بأن القرآن من عند الله، تكون الحُجَّةُ صائبةً تمامًا. وقد تكلَّم أرسطو عن هذا. حُجة ديكارت الشهيرة: «أنا أفكِّر إذن أنا موجود.» فيها مغالطة منطقية شديدة. معظم استدلالات فرويد في التحليل النفسي تقوم على الوصول لنتائج تفترض صدق المقدمات المطلق.

مغالطة المنشأ: الإنسان مولَعٌ بمعرفة مصدر الحُجَّة، فإذا جاءت من مصدرٍ يَمْقُته رفَضَ الحُجَّة، وكأنه يقول: فلتذهب هذه الآراء للجحيم بمَنْ قالوها! بينما الحجج يجب أن تقف على أرجُلِهَا الخاصة لا على قائليها. عندما فاز طاغور — الشاعر البنغالي العظيم — بجائزة نوبل تنادَى قومُه للاحتفال به؛ فقال في سخرية: «إنهم يُكرِّمُون التكريم!» أي إنهم يُكرِّمون جائزة نوبل، ولا يُكرِّمونه هو الذي كان بينهم منذ زمن.

من أمثلة أخطاء المنشأ: «هذا الدواء مأخوذٌ من نباتٍ سامٍّ … إذن فهو قاتلٌ حتى لو نصحني الطبيبُ بأخذه.» هذا انتقالٌ غير مشروع لرفض الدواء لأن منشأه سامٌّ، مهما كانت معالجتُه الكيميائية. إنَّ أصل النظرية العلمية لا عَلاقة له بتاتًا بمحتواها. لكن لا بد للنظرية أن تكون قابلةً للتكذيب كما قال الفيلسوف بوبر. بعض الاكتشافات العلمية جاء عن طريق الأحلام؛ مثل تصميم حلقة البنزين الذي حلم به كيكوليه، وحلم بور بنموذج الذرات … فلتأتِ النظرية من حيث أَتَتْ … المهم أن تصمُد للتجرِبة والاختبارات. مغالطة المنشأ ترتبط كثيرًا بالأعمال الفنية، عندما يتدخَّل رأيُكَ الشخصيُّ عن هذا الفنَّان أو ذاك في تذوُّقك لعمله.

التعميم المتسرِّع: هنا نستمدُّ خصائصَ فئةٍ معيَّنةٍ من عيِّنةٍ من هذه الفئة. إن الإحصائيين يعرفون قواعدَ أخْذِ عيِّنةٍ ممثِّلةٍ لمجتمعٍ ما، ويعرفون أخطاء العيِّنات. لكنَّ الباحثين بطبعهم قد يختارون العيِّنات المتَّفِقة مع نظرياتهم أو يختارون العيِّنات السهلة بسبب الكسل. هناك مجلة أمريكية قامت بعمل استطلاعٍ عملاقٍ على مليونين من القراء لمعرفة رئيس البلاد القادم، هل هو روزفلت أم لاندون … برهنت التوقعاتُ على فوزٍ ساحقٍ للاندون. الانتخابات الفعلية جاءت بروزفلت! السبب هو أنَّ المجلة كانت تستطلع رأي المشتركين في المجلة والمذكورين في دليل الهاتف … وهؤلاء كانوا شريحةً أعلى دخلًا، بينما لم تُؤخَذ أيُّ عيِّنة من الفقراء. لقد كانت عيِّنةُ المجلة متحيِّزةً Biased. أمثلة هذا الخطأ كثيرة: «كلما رأيتُ الأخبار وجدتُ مجرمين زنوجًا يُقبَض عليهم … إذن كلُّ الزنوج لصوصٌ» «عندما غادرتُ مطار هيثرو وجدتُ الموظف يضحك لي، وسائق سيارة الأجرة مهذبًا؛ فعرفتُ أنَّ البريطانيين شعبٌ دمثٌ» هنا يُذَكِّرنا المؤلفُ بمَثَلٍ عاميٍّ مصريٍّ جميلٍ: «لا تذم ولا تشكر، إلا بعد سنه وست اشْهر!» «كان صديقًا مثاليًّا لي، لكنه عبس في وجهي أثناء الاجتماع وأهانني؛ هو ليس صديقًا وفيًّا وقد قررتُ أن أتخلَّى عنه» التعميم المتسرِّع قد يأتي بنتيجةٍ صادقةٍ لكن هذا لا يُلزمنا بقبولها ما دام الاستدلال مغلوطًا.

مع مزيدٍ من هذا الكتاب الممتع في المقال القادم