قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, December 26, 2014

غيبوبة - 1



كان حديث الناس قبل أسبوع مضى يدور حول براءة مبارك وعهده من كل التهم، والتساؤل عمن قتل ثوار يناير وما بعده. كان بوسعك أن تركب مع أى سائق تاكسي أو تجلس لدى أي حلاق فيفتح الموضوع فورًا، ولا يمكن أن تجلس فى أي مقهى إلا ويعود هذا الموضوع للحياة. وفجأة كف الناس عن الكلام .. بدأ الصمت المقدس.

موضوع الساعة الجديد يدور حول العفاريت .. الكل يناقش حلقة الإعلامية الشهيرة التى قدمت فيها أسرة من الممسوسين بالجان، ووصف لى أحد المشاهدين بانبهار كيف أن الطفلة لمست المصحف بيدها فاحترق .. لم أبتلع هذا بسهولة، وإلا فلماذا يطردون الجان بتلاوة القرآن؟ المفترض أن تحترق الطفلة الممسوسة لا العكس !

الحق إننى لا أتابع برامج هذه الإعلامية بتاتًا .. رأيت أجزاء من حلقات من قبل، فشعرت أنها هى موضوع الحلقات ذاتها .. أى أنه برنامج كامل مدته ساعتان عنها.. كيف تتربع على ظهر الميكروباص، وكيف تحزن وتصدم وتتكلم بصوت هامس كأنها تنوم الضيف مغناطيسيًا.. وكيف تلبس الكاسكيت وتؤدى التحية العسكرية وتصيح: مش سايبين لى كرسى يا أفندم .. وكيف أنها فاتنة فى التي شيرت الذى يحمل ألوان العلم المصرى .. إلخ. للمذيعة حجم لا يمكن تجاوزه فى العالم كله، فلا يمكن أن يتضخم دورها لتتحول إلى ممثلة. لكن كلام الناس عن الحلقة الأخيرة جعلنى أهتم بالأمر جدًا، خاصة أن الأسرة المذكورة من طنطا (قيل إنهم من شبرا قاص وهى أقرب لمركز السنطة من طنطا)، وهكذا بحثت عن الحلقة على اليوتيوب وشاهدتها.

الأمر ببساطة ليس حلقة .. بل هو كاميرا تصور ما يدور فى مصحة أمراض عقلية لمدة ساعتين كاملتين. مشهد حرق المصحف لم يحدث قط. رأيت صفحات محترقة من المصحف، لكن خيال صاحبي استكمل الصورة فرأى الطفلة تلمس الكلمات فتشتعل فعلاً. لو رأيت أى مريض جنون فى مصحة عقلية أو مريض صرع يصاب بنوبة، فلسوف يبدو لك مرعبًا مخيفًا ... صراخ شيطانى وزبد يخرج من الفم وعينان جاحظتان، فلا عجب أن كل الثقافات افترضت أن الصرع مس شيطانى أو أرواح، وفى أفريقيا يتم تفسير كل مرض بأنه (داوا) .. أى الأرواح الشريرة التى حلت بالمريض. ما فعلته الحلقة هو أنها دخلت مصحة عقلية لترينا خليطًا فريدًا من الذهان والهستيريا والبارانويا والصراخ والتشوهات النفسية. الاضطرابات (الفرويدية ) تلعب دورًا جوهريًا فى هذه القصص، لهذا تشيع فكرة الزواج من ملك الجان.. إلخ .. بالطبع لابد من إضفاء صبغة دينية على الأمر ليكون هذا جنيًا كافرًا يهاجم المصلين ويضربهم. لابد فى هذه القصص أن يكون الجان من معتنقي الدين الآخر كذلك، ففى كليب رأيته على النت لقس يعالج مراهقة من المس، راحت تردد بلا توقف: اوعى كده .. أنا عايزة أسلِم ! . وفى النهاية تشفى ..

لاحظ بعض أقوياء الملاحظة أن هناك طفلاً ضمن الأسرة هو نفس بطل حلقة الطفل الضائع من امبابة، أى أنه كومبارس يستعمل فى الحلقات كلها، ولا أعرف بصراحة لأننى لم أر حلقة امبابة تلك.

ما الذى خرجنا به من هذا؟ لا شيء .. هناك من اندهشوا وهناك من أصيبوا بالذعر، وهناك من اغتاظوا مثلى بسبب هذه الحالة من الحشيش الافتراضى التى نمر بها. الشيء الوحيد المؤكد هو أن أحدًا لم يعد يذكر قضية مبارك!. ذات مرة كنت ألعب مع ابنتى مريم وهى طفلة، فحاولت أن آخذ قطعة حلوى من ثروتها، لكنها كانت مصرة بعناد على ألا تمنحنى شيئًا .. هكذا ابتعدت عنها، وفتحت مجلة أطفال ورحت أقرأ وأضحك وأصفر بفمي بانبهار .. على الفور كانت قد نسيت كل شيء عن الحلوى التي تفديها بحياتها، وجاءت تفحص المجلة لتعرف ما يضحكنى لهذه الدرجة!

هكذا نلاحظ أن قضايا مثل المدرس الذى يضرب الطلبة بتوحش، وهل الفنان الفلانى هو والد الطفلة التى تزعم أمها أنه أبوها؟... هل تزوج فلان من فلانة؟.. قضايا كهذا تظهر على السطح فى اللحظات السياسية الحرجة دائمًا.

كتبت كثيرًا جدًا من قصص الرعب، وكان الرعب رفيقي لفترة طويلة، لكنى حرصت دائمًا على أن أكتب قصصًا خيالية فقط .. رفضت دائمًا أن أتكلم عن هذه الأمور كحقائق علمية. ولهذا لم أحب قط كتبًا مثل (أرواح وأشباح) لأنها تطرح الموضوع كحقائق، بينما هى أشياء لا يمكن قياسها على الإطلاق، وفى مجتمع يعاني مشاكل جمة فى التعليم مثل مصر، فإن هذا الكلام يهدد بأن يحل محل العلم الحقيقى. ولنفس الأسباب كنت أعتذر دومًا عن عدم الظهور فى أى برنامج يتكلم عن الظواهر الخوارقية أو الأبراج .. إلخ.. يمكن أن أكتب قصة مسلية عن العفاريت، لكن يستحيل أن أكتب مقالاً عن العفاريت وخصائصها وأنواعها.

أحاول كذلك حتى فى القصص أن أبتعد عن عوالم الجان، لأن الموضوع حساس فعلأً. من السهل أن تدوس لغمًا وأنت تتحرك بسذاجة وبراءة نية. لا أعتقد أن هناك خلافًا بين العلم والدين، لكن هناك خلافًا مؤكدًا بين العلم من جهة، وبين النصب واستغلال الدين ولي عنقه من جهة أخرى.

أذكر أن جريدة مهتمة بالحوادث أفردت فى التسعينيات عددًا خاصًا، أقرب لدعاية مدفوعة الأجر عن شيخة تطرد الجان، وكيف أنها تضرب رأسك حتى ينزل الجان للخصر ثم توجه ضربات للخصر ليخرج من .. لا أذكر بالضبط .. وكان العدد يعج بصور الشيخة وعنوانها وأرقام هاتفها!

عندما تبحث عن مواضيع مس الجان للبشر فأنت لا تستطيع نفي ذلك بقلب مستريح. سوف تجد فى كلام ابن تيمية ما يؤكد ذلك بشكل قاطع.. دخول الجن فى بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة . . وقال الشيخ صالح الفوزان فى شرح كتاب التوحيد: فالذى يُنكر مسّ الجن للإنس لا يُكَفَّر، ولكن يضلّل، لأنه يُكذِّب بشيء ثابت أما الذى يُنكر وجودهم أصلاً فهذا كافر. الرازى الطبيب العربى العظيم أقر بوجود الجان لكنه رفض فكرة أن يدخل جسد المصروع.

المشكلة هى أن يتسلل من هذا الباب الموارب عدد هائل من النصابين والمرضى النفسيين ويصير كل خلل نفسى مسًا. لهذا يجب أن يقول الطب النفسى والأزهر كلمتيهما بوضوح فى هذه الأمور قبل عرضها وبلبلة عقول الناس، وعلى الإعلام ألا يعرض هذه النماذج كأنها فقرة سيرك، لمجرد ضمان أمسية حافلة تشغل الناس وتصرف تفكيرهم عن أمور أخرى