قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, December 22, 2014

ألعاب المنطق - 4


طال عرضي لكتاب المُغالَطات المَنطقيَّة؛ لذا أَعِدُك أن تكون هذه الحلقة الأخيرة. مشكلة هذه الكتب المهمة هي أنك لا تستطيع اختصارها أقلَّ من حدٍّ معين، وإلَّا لكان من الأفضل أن تنصح القارئ بشراء الكتاب ولا تعرضه أصلًا. نستكمل المُغالَطات المَنطقيَّة الشائعة في مجتمعنا:

مغالطة التَّشْيِيئ: التَّشْيِيئ هو أن تَنسِب وجودًا حقيقيًّا لتصورات عقلية. هذا نوع من فن الاستعارة، لكننا هنا نتكلَّم عن استعمالاته الخاطئة. العرَّافون مثلًا يُشيِّئون المستقبل في صورة يُمكن رؤيتها في بلَّوْرة. مثال لهذه المغالطة: أهداف الطبيعة نبيلة (الطبيعة لا أهداف لها).


انحياز التأييد: أي إننا نبحث عن دليل يؤيد وجهة نظرنا أكثر مما نبحث عن دليل ينفيها. يريد باحث أن يُثبت أن تخفيض الضرائب قلَّل عدد الجرائم؛ مِن ثَمَّ يجمع الأمثلة المؤيدة لذلك، بينما هناك ألف حالة تم فيها تخفيض الضرائب فارتفعت الجرائم. تكلَّم كارل بوبر عن هذا وقال: إن الفكرة التي لا تقبل التفنيد هي فكرة خاطئة غالبًا؛ مثلًا: فكرة أن جميع النباتات تتكاثر جنسيًّا … سوف تجد مئات الأمثلة التي تؤيد هذه الفكرة في الطبيعة، بينما يجب أن يُفتِّش الباحث بعناية عن نماذج لا تتكاثر جنسيًّا؛ ممَّا يَهدِم فرضيته. لو صمَدتِ الفرضيةُ بعِنادٍ لمحاولات تكذيبها فمن المُمكن قَبولُها. أنا في القطب الشمالي؛ إذن سيكون الدُّبُّ القادم أبيض … إذا جاء ألف دبٍّ أبيض فهذا لا يثبت النظرية، بينما لو رأيت دبًّا واحدًا أشهَبَ لتلقَّت النظرية ضربة قاصمة؛ إذن التكذيب هو معيار العلم وليس التأييد، قال فرانسيس بيكون إن رجلًا رأى صورة لناس قيل له إنهم نَجَوْا من الفيضان لأنهم قدَّموا القرابين للآلهة، فقال: وأين صورة الذين قدَّموا قرابين ومع ذلك غرقوا؟

مغالطات الالتباس: سوء الفهم قد يَقتُل، مثلما وقع في جزر الكناري في حادث طيران عام ١٩٧٧، عندما استُعملت عبارة We are at the take off، ففَهِم برجُ المراقبة أن الطائرة تستعدُّ على أرض المطار، وكان الطيار يعني أنه في الإقلاع … تصادمتْ طائرتان بسبب هذا الالتباس. من أنواع هذا الالتباس:

  1. الالتباس المُعْجَمي: الاشتراك هو أن تعني الكلمة عدة معانٍ (مثل استخدامات لفظة العين المختلفة)، والترادُف هو أن تعني عدة كلمات نفس الشيء (أسد – ليث – أسامة)؛ مثال: كل قانون يجب أن يطاع … قانون الجاذبية قانون … إذن قانون الجاذبية يجب أن يطاع (قانون لها معنيان هنا). أحيانًا تفتح هذه الطريقة مسارات بلاغية ممتازة؛ مثل قول فرانكلين: يجب أن يتعلَّق بعضنا ببعض وإلا علقنا منفردين (التباس التعلُّق بمعنى التماسُك بتعلُّق الشنق)، والإمام الشافعي: «ما جادلتُ عالمًا إلا وغلبتُه، وما جادلتُ جاهلًا إلا وغلَبني.» أو «مِن الفنِّ ألَّا يظهر الفن!»
  2. التباس التركيب: هذه حيلة العرَّافين في جعل كلماتهم غامضة تتفق مع الشيء ونقيضه؛ مثال نُبُوءة عرَّافات دلفي: «إذا ذهب الملك كروسوس ليُحارب كسرى فلسوف يُدمر مملكة عظيمة.» هكذا تحمَّس كروسوس وذهب للحرب وهُزم! فلما عاد للكاهنات قلن إن المملكة العظيمة التي قَصدْنَها ليست مملكة الفرس، لكنها مملكته هو! مثلًا: «كان ضرب زيد مبرحًا.» لم نعرف هل زيدٌ ضاربٌ أم مضروب؟
  3. النَّبْر: هو التلاعُب بتشكيل الحروف في الكلمة أو الضغط على مقاطع معينة. وهناك كذلك الاقتباسات المنزوعة من سياقها، وأشهر مثال لها: «لا تقربوا الصلاة.» مؤلف أمريكي زعم أن مفكرًا شهيرًا قال إنه «أنبه صحفيي جيله.» ما قاله المفكر في الحقيقة هو تسفيه لليمينيين: «بين اليمينيين المحافظين فإن فلانًا هو أنبه صحفيي جيله!»

مغالطة التركيب والتقسيم: مثال ذكرتُه أنا من قبلُ في قصة لي: عندما تصنع فريقًا من أفضل لاعبي العالم وتتوقَّع أن تحصل على مباراة ممتازة، فتكون النتيجة مخيبة للآمال؛ لأن الفريق ليس مجموع أجزائه؛ مثال: الهيدروجين قابل للاشتعال … الأكسجين يساعد على الاشتعال … إذن خلْط الغازين يُنتج مادةً هائلة الاشتعال (الحقيقة أن جمعهما يأتي بالماء)! مغالطة التقسيم هي العكس … كلوريد الصوديوم (الملح) قابل للأكل … إذن الكلور والصوديوم قابلان للأكل. المصريون أضافوا الكثير للطب … إذن دَعْ لي هذا المريض واطمئنَّ!

إثبات التالي: هنا يتم عكس القضية المنطقية؛ كل البشر فانون … سالي فانية … إذن سالي بشر … واضح أنه استنتاج خاطئ؛ لأن سالي قد تكون قطة مثلًا. الأسكندرية في مصر … أنا في مصر … إذن أنا في الأسكندرية. هذه مغالطة شائعة في الإعلانات: الشاب الرياضي يُفضِّل شرب عصير كذا … أنت تحب عصير كذا … إذن أنت رياضي. مثال آخر: كل الطيور بأجنحة … الوطواط ليس طائرًا؛ إذن ليست له أجنحة.

الذنب بالتداعي: عندما تكره أناسًا فأنت تكره ما يحبون. الدعوى تصير كاذبة لمجرد أنهم يعتنقونها. كانت المكارثية تمارس هذا الخطأ كثيرًا. مارتن لوثر كينج كان يدافع عن الحقوق المدنية، وبما أن الشيوعيين غالبًا يدافعون عن الحقوق المدنية؛ فلا بد أن لوثر شيوعي. هتلر كان نباتيًّا … إذن لا تكن نباتيًّا أبدًا.

مغالطة التأثيل: التأثيل Etymology هو البحث عن الأصل التاريخي للكلمة. هذا يُغري بالتحذلُق … بينما اللغة تتطوَّر مع الوقت؛ مثلًا:notorious كان معناها الشهرة، ثم صارت تعني الشخص سيئ السمعة، وكلمة Minister قديمًا كان معناها الخادم، بينما هي اليوم بمعنى الوزير. علينا أن نتقيَّد بالمعنى المعاصر الدَّارج للكلمة.

الاحتكام إلى الجهل: أي إن الشيء حقيقي ما لم يُبرهِن أحدٌ على أنه باطل … يصير غياب الدليل هو الدليل، أو كل ما لا يمكن نفيُه هو حق. كان مكارثي يتَّهم الناس بالشيوعية معتمدًا على أنه ليس لديه دليل ينفي تهمة الشيوعية عنهم! نذكر كيف طالبت أمريكا صدام حسين بأن يثبت عدم امتلاكه لأسلحة نووية، بينما كان عليها أن تُثبتَ هي؛ من باب أن البينة على مَن ادَّعى. عندما تتَّهم المَغْسَلة بأنها أضاعت بذلتك فعليك أن تُبرز الإيصال للشرطة، بينما لا يمكن اتِّهام المغسلة؛ لأنه ليس عندها ما ينفي استلامها للبذلة!

أما إن رُحتَ تُبرِّر نفسك وتؤكد أنك لست مُتَّهمًا فأنت تزيد الطين بِلَّة، وكما يقول المثل الفرنسي: «مَن يعتذر يتهم نفسه Qui s’excuse s’accuse.»

في مواقف معينة تكون هذه هي حجة الصمت، وهي مقبولة أحيانًا. هناك في علوم الحاسب ما يدعى «الاستدلال القائم على افتقاد المعرفة». قوائم أسماء الناجحين في الامتحان مثال جيد … إذا لم يَرد اسمك في القائمة فهذا دليل على أنك راسب … يسمَّى هذا «الانغلاق الإبستيمي».

البروكرستية: تكلَّمت عن هذه المغالطة في إحدى قصصي: سرير قاطع الطريق بروكرستيز لا يُناسب طول النائم فيه؛ لذا نمطُّ النائم أو نقطع قدميه ليتلاءم مع السرير. هنا أنت تفرض رأيك الخاص وتحاول قولبة الأمور عليه. يمكن لجهاز مخابرات أن يُثبت العمالة على أي شخص بالبروكرستية. سماسرة تجارة الإعجاز العلمي في القرآن يلوون الآيات بالبروكرستية. الساسة عندما يفرضون التجانُس على الناس بالقوة يُمارسون البروكرستية. البشر لا يُمكن أن يكونوا مُتماثلين أو يُصَبُّوا في قالب واحد. ويقول العقاد في بيت شعر جميل:
ما فرَّقت كفة الميزان أو عدلت بين الحلي وأحجار الطواحينِ

مغالطة المقامر: هنا نفترض أن ما سيحدث يعتمد على خبرتنا بما حدث من قبل؛ عندما تلقي العملة عشر مرات وفي كل مرة تكون كتابة؛ فليس لك أن تتوقَّع أن الصورة قادمة في المرة القادمة لأنها تأخَّرت!

المظهر فوق الجوهر: هنا تعجب بأسلوب عرض الحجة بينما تتجاهل محتواها، مثال: البائع كان وسيمًا أنيقًا يتكلَّم بحماسة، فلا بد أن هذه الغسالة ممتازة، أو ٢ × ٢ = ٤ أيها الغبي الأبله. ترفض أنت هذا بسبب بذاءة مَن يتكلم مع أنه يقول صوابًا.

هذا عرضٌ مجحف لهذا الكتاب، الذي أعتقد أننا يجب أن نقتنيه ونرجع له مرارًا؛ فهو يُطلعنا على العبث المنطقي الذي يمارسه الناس، والأهم الذي نمارسه نحن!