قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, December 8, 2014

عن قالب الكيك



فى هذا العام فقدنا عددا كبيرا من الأسماء المهمة المحترمة؛ فلم يشأ العام أن ينتهى ورضوى عاشور بيننا. لن أضيف جديدا لو كتبت عنها، فقد كتب عنها من هم أبرع وأبلغ منى بكثير. كانت أديبة موهوبة ومناضلة شريفة شجاعة، تقف عند الحدود المشتركة بين المثقفين جميعا، فلم أعرف أحدا لم يحزن عليها أو يبكها بصدق. هى إذن من هؤلاء الأشخاص النادرين الذين يحزن عليهم الجميع. لربما اختلف المثال كثيرا، لكنى تذكرت وفاة الفنان خالد صالح حيث بدا كأن هناك جرحا أدمى قلب كل متكلم بالعربية. قصة حب طويلة جمعتنى بكتاباتها منذ قرأت (غرناطة)، فوجدتها عملا متقنا ساحرا شديد الدقة، شامخا فى مستواه الإنسانى. لقد تخلت عن فكرة الأدب النسائى الضيقة، التى تحبسه فى نفس الدائرة المملة عن (المجتمع الذكوري - شيوخ القبيلة - المرأة كجسد - الموت للرجال.. إلخ) التى اصطلح على تسميتها أدبا أنثويا، وكتبت كإنسان أولا لا كأنثى، لذا تفوقت على عشرات الأدباء الرجال.

ليرحمها الله..

شهد هذا الأسبوع براءة مبارك ومعاونيه من تهمة قتل المتظاهرين. لا أذكر التفاصيل المعقدة لمحاكمات مبارك، لكنى قرأت خبر تبرئته عشرات المرات، فلا أرى جديدا فى هذا الخبر والكل كان يتوقعه.

منذ أعوام كنا نتلقى دورة عن تنمية مهارات أعضاء التدريس، وقد طلب منا الأستاذ المحاضر أن يعرف كل منا نفسه، ثم يخبرنا بتخصصه بسرعة.. هكذا راح كل واحد يذكر اسمه ونبذة عن تخصصه بينما المحاضر يكتب ملاحظاته. وصل الدور إلى مدرس سريع الخاطر من الجالسين، فقال: «أولا أهنئ سعادتك على الطريقة الذكية التى تأخذ بها الغياب!». هنا أدركنا الحقيقة وانفجرنا ضاحكين.. كان المحاضر يريد أخذ الغياب بطريقة لا تبدو كذلك. تذكرت هذه القصة عندما رأيت كيف أن مظاهرات 28 نوفمبر التي حولها الإعلام إلى كارثة لم تحدث أصلا، وكان يوم الجمعة أهدأ من أيام أخرى كثيرة. قال كثيرون إن الحشد ضد مظاهرات 28 نوفمبر كان مجرد طريقة ذكية لمنع مظاهرات 29 نوفمبر المتوقعة بعد صدور الحكم على مبارك!.. لا أعرف طبعا.

نحن لا نعترض على الحكم ونفهم جيدا أن القضاء يتحرك حسب الأوراق التى يجدها أمامه. هذا مفهوم.. ومن الواضح أنه لم تكن أمامه أى ورقة تدين الداخلية أو مبارك. هنا يأتى السؤال: من فعلها؟. من دهس المتظاهرين بعربة الشرطة كما رأينا، وماذا عن الفتى الذى يطلق عليه رجال الشرطة النار فى الأسكندرية، وهو الفيلم الموجود على كل جهاز كمبيوتر فى مصر؟ ومن قتل جيكا ومينا دانيال وعماد عفت و.. و.... ماذا عن الصفحة الكاملة المليئة بصور الشهداء التى نشرها د. محمد المخزنجى أيام الثورة، وكتب عنوانا لها (ورد الجناين)..؟

كانت لى قريبة كلما وجدت شيئا خطأ فى البيت: كوبا مكسورا.. حنفية مفتوحة.. ورقة ملقاة، تتهمنا نحن الأطفال بأننا فعلنا ذلك، فكنا ننكر طبعا.. كانت تقول كلمتها المأثورة: «أصل أمى طلعت من التربة وعملت كده!.. الله يرحمك يا امه..». يبدو إذن أننا وجدنا الفاعل... لكن ما دوافع المرحومة أمها لقتل كل هؤلاء؟

لابد من إجابة واضحة.. من فعلها؟. كتب الأستاذ فهمى هويدى مرارا عن لجنة تقصى الحقائق التى شكلت لمعرفة من قتل الثوار، وكانت اللجنة برئاسة المستشار عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس النقض الأسبق، وضمت كلا من المستشار اسكندر غطاس مساعد وزير العدل، والدكتور محمد سمير بدران الأستاذ المتفرغ بحقوق القاهرة. والدكتورة نجوى خليل مدير مركز البحوث الجنائية والاجتماعية آنذاك، ووزيرة الشئون الاجتماعية لاحقا. بعد شهرين ونصف من العمل الشاق، وفى 18/4/2011 قدمت اللجنة تقريرها فى 450 صفحة، وقد أشار بإصبع الاتهام إلى جهات أمنية معينة فى المسؤولية عن قتل المتظاهرين، ولم يذكر بحرف واحد رجال حماس، الذين حاولت آلة ضخ الأكاذيب المسماة بالإعلام إقناعنا أنهم كانوا فى كل ركن من مصر وقتها. قال التقرير مستندا إلى الأدلة: «تبين للجنة أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشا وذخيرة حية فى مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير، خاصة من مبنى وزارة الداخلية ومن فوق فندق النيل هيلتون ومن فوق مبنى الجامعة الأمريكية. وقد دل على ذلك أقوال من سئلوا فى اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية، التى أفادت أن الوفاة جاءت غالبا من أعيرة نارية وطلقات خرطوش فى الرأس والرقبة. وإطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر من لجنة برئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط الوزارة. تبين للجنة أن سيارات مصفحة للشرطة كانت تصدم المتظاهرين عمدا وتصيب أعدادا منهم دلت شواهد وقرائن عدة على أن الشرطة استعملت القوة المفرطة فى مواجهة المتظاهرين». تم تجاهل التقرير تماما ولم نسمع عن أى جهة تفنده أو تقر بوجوده أصلا. فيما بعد اعتمدت المحاكمات على شهادة رجال الداخلية، على طريقة: «الداخلية حققت وأثبتت أنها لم تطلق الرصاص على أى متظاهر». الطريف أن الداخلية أطلقت الرصاص فى نفس يوم حكم البراءة فقتلت عدة متظاهرين!.. أى أننا سنقتل بالرصاص كل كذاب يزعم أننا نقتل بالرصاص.

يجب الإجابة عن هذه الأسئلة وعدم تجاهلها، وإلا فدماء من ماتوا لا تساوى ثمن الرصاص الذى قتلهم، ومعناه أن كل من استشهدوا أو فقئت عيونهم فعلوا هذا بلا ثمن، ومعناه أن السادة عباقرة آلة ضخ الأكاذيب المسماة بالإعلام، الذين لم يكفوا عن تسفيه ثورة يناير قد كسبوا المعركة، واستحقوا كل مليم من الملايين التى نالوها.

كانت هناك فرصة ممتازة لتغيير كل شىء، وقد تناغم تردد الثورة فى ملايين القلوب فى لحظة واحدة نادرة، لكننا أضعناها بسلسلة من الأخطاء بدأت منذ لحظة التنحى عندما عاد الجميع لبيوتهم، وعندما لم يطالبوا بمحاكمات ثورية، ثم الصراعات الداخلية والانقسامات، واستهلاك طاقة الثورة فى اعتصامات ومليونيات لا حصر لها ولا هدف. متى تتكرر ثورة كهذه مرة أخرى؟. ألجأ هنا لعبارة كتبها فى الفيس بوك صديقى الفنان التشكيلى د. رائف وصفى: «حماقة واحدة تقع فيها كل الفصائل السياسية على اختلاف أنواعها وانتماءاتها منذ ليلة ١١ فبراير ٢٠١١ وحتى اللحظة، إذ يتصور الجميع أن للثورة (مقادير) -يعنى حاجة كده زى قالب الكيك- ما أن يضعوها على بعضها البعض حتى تندلع ناسين أو متناسين بلهاء أو مستهبلين أنه لابد لقالب الكيك من (فرن) حتى ينضج... فرن تكفلت سنوات مبارك الثلاثين بإعداده وقد (خبز) قالب كيك واحدا ثم انطفأ، ولن يقدر أى فصيل على إشعاله مرة أخرى..». هذا رأيى تقريبا، لكنى أستبدل بعبارة (مرة أخرى) عبارة (لأعوام).