قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, April 28, 2015

دعني أخدعك … دعني أنخدع


تكلَّمْتُ كثيرًا في كتاباتي عن هذه القاعدة التي اخترعتُها، والتي تقضي بأن القارئ للرواية يبتلع بعضَ الأشياء غير القابلة للابتلاع ويغفرها للكاتب، وهذا من منطق أنه يقبل أن ينخدع كي تدور عجلةُ الخيال؛ كالزوجة التي تتجاهل الأدلةَ التي توحي بأن زوجها يخونها، فقط لتستمرَّ الحياة …


كل العملية الفنية نوعٌ من الخداع في الأصل؛ أنت تجلس لتقرأ روايةً تعرف أنها لم تقع على الأرجح (وإلَّا لقرأتَها في صفحة الحوادث)، وترى أشخاصًا مثلي ومثلك على المسرح وفي السينما، يمثِّلون أشياء لم تحدث؛ عندما يسقط البطل برصاصةٍ فأنت تعرف أنه سليم، وفي المسرح يسمون هذا بالحائط الرابع. هذا الحائط الذي يقف بينك وبين الممثلين على خشبة المسرح، فيجعلك تتناسى أنهم ناس مثلي ومثلك يتظاهرون … لأنيس منصور كتاب جميل اسمه «يسقط الحائط الرابع»، يقوم فيه بالدُّنوِّ من شخصيات شهيرة لنراها كبَشَرٍ؛ أي إنه أزاحَ عنها هالةَ الإيهام.

في السينما نرى مشاهِدَ ثنائيةَ الأبعاد غير مجسمة، لكننا نخدع أنفسنا ونراها مجسمةً، نشاهد الأفلام بالأبيض والأسود، لكننا نقوم بعملية تلوينٍ لها في عقولنا.

يمكن تسمية هذا كذلك ﺑ «تناقض الخيال paradox of fiction». لماذا نتأثَّر بمواقف خيالية تمامًا بالرغم من أننا نعرف أنها كذلك؟ الإجابة هي: لأن المُشاهِد يريد أن يصدِّق.

مِن الذين اهتموا بهذه النقطة كثيرًا دكتور مدكور ثابت — أستاذ الإخراج الشهير ورئيس الرقابة — وقد كتب عدة أوراق علمية عن الموضوع، لكن الكتاب الذي استوقفني كثيرًا هو كتاب «كيف تكسر الإيهام في الأفلام؟» الذي صدر عن مكتبة الأسرة عام ٢٠٠٢. هنا يتحدَّث عمَّا قاله أرسطو عن التطهير عن طريق إقناع المشاهد أن ما يدور على خشبة المسرح حقيقيٌّ. ظلَّ هذا هو مفهوم المسرح حتى جاء المشاغِب بريخت في القرن العشرين، ووضع مفهومَ المسرح الملحمي؛ بريخت رأى أنه لا بد من كَسْر اندماج المُشاهِد مع ما يراه لحثِّه على التفكير والثورة … لا بد من قهر الإيهام. ومن عباءة بريخت وُلِدت معظم التيارات الوجودية والسريالية والعبثية… إلخ. يرى د. مدكور أن الإيهام ليس كاملًا في المسرح الأرسطوطالي العادي؛ المُشاهِد يذهب للمسرح وقد قرَّرَ أنه سوف يخدع نفسَه بنفسه، سوف يرى حقيقةً افتراضيةً. إن واقعية الأفلام واقعيةٌ متوهَّمةٌ، الشيء الوحيد الواقعي هو تواصُل الجمهور مع عالم الإشارات الفنية القادم من الفيلم. إن الإيهام عنصرٌ مهم للفيلم، لكن مهما بلغ الإيهام من إتقانٍ فله حدود، ويخطئ كذلك مَن يظن أن اللاإيهام قادر على هزِّ اندماج الناس مع العامل الفني؛ لو رأيتَ شابًّا يضرب شيخًا في عالم الواقع، فأنت تهرع للدفاع عن الشيخ، بينما في السينما تراقِب المشهد ولن تحاول إنقاذ الشيخ إلا لو كنتَ مخبولًا؛ الجمهور تحت تأثير تعاقُد مُسبَق على مشاهدة صراع يشبه الحقيقةَ، لكنه ليس الحقيقة. إن مدكور ثابت ضد بريخت على طول الخط، ويرى استحالةَ أن يدخل المُشاهِد السينما كناقِدٍ مراقب لا يندمج في الأحداث أبدًا؛ هناك بالتأكيد درجةٌ إجبارية من الإيهام ودرجة من اللاإيهام.

هذا عن العملية الفنية ذاتها، فلو دخلنا إلى العمل الفني نفسه لَوجدنا أمثلةً كثيرة تضطرنا إلى ابتلاع أشياء لا يمكن ابتلاعها، والحقيقة أن عالم الإيهام له قوانينه كذلك. أذكر أن صديقًا لي رأى فيلم سوبرمان، بعد ربع ساعة صاح: «رجل يطير! … يا لهذا السخف!»

قلتُ له في غيظٍ: إن مَن يشاهد فيلمًا اسمه سوبرمان؛ عليه أن يقبل قوانينَ اللعبة، وإلا فعليه أن يدير مؤشِّر القنوات إلى «ناشونال جيوجرافيكس». في الوقت نفسه كنتُ مستعِدًّا لأجنَّ غيظًا لو تعرَّضَ سوبرمان لمادة الكربتونايت ولم يَمُتْ، كما كرهت نهاية الفيلم عندما أدار الأرضَ في اتجاهٍ عكسيٍّ فعادت حبيبته للحياة. قد نقبل الإيهام، لكننا كذلك نحبُّ أن يلتزم الإيهام بقواعده الفيزيائية الخاصة، وألَّا يبتعدَ عن خبراتنا كثيرًا.

قرأتُ مَن ينتقد فيلم «هاري بوتر» لأن الحية التي تكلِّم هاري بوتر ذات جفنين. ردَّ أحد القرَّاء مغتاظًا: «أنت قبلتَ أن تتكلَّم حيةٌ، وبالرغم من هذا أنت مغتاظ من جفنَيْها!» بالعكس، أرى هذا منطقيًّا؛ لقد قبلنا قوانين الإيهام، لكن يجب أن تبدو الحية كحية.

دعني أخدعك … دعني أنخدع

لو أردتَ صيغةً ثقافيةً شائعة لعبارتي هذه، فَلْتستعمل عبارة «التعطيل الإرادي لعدم التصديق»، وهي العبارة التي ابتكرها كولردج عام ١٨١٧؛ هذه عبارة مهمة جدًّا، لكنها كذلك سيئة السمعة؛ لأنها تُرغِم القارئ على تصديق أشياء سخيفة أحيانًا. في فيلم إد وود، نرَى المخرجَ الفاشل يصوِّر لقطةً في المقابر، فيسقط شاهِدُ قبرٍ مصنوع من الورق المقوَّى؛ ينبِّه المنتجون المخرجَ لهذا، فيقول في غرور: «أَلَمْ تسمعوا عن التعطيل الإرادي لعدم التصديق يا سادة؟» هذا ليس تعطيلًا، هذا استخفاف بالمُشاهِد.

من ضمن نماذج «التعطيل الإرادي لعدم التصديق» نجد موضوع اللغة؛ لماذا يتكلَّم الإنجليز والإسرائيليون وسواهم العربيةَ في أفلامنا؟ في الأفلام الغربية يتكلَّم الجميع الإنجليزية ذات اللكنة الثقيلة حتى في اجتماعاتهم الخاصة. يحكي هتشكوك عن فيلم أمريكي يقول فيه رجل فرنسي لرجل ألماني بالإنجليزية: أنت تتكلَّم الروسية، وهذا سيسهِّل تفاهمنا! لكنك تلقائيًّا تبتلع الخدعةَ، وتشعر أن الإسرائيليين يتكلَّمون العربيةَ فعلًا.

تحكي موسوعة ويكيبيديا عن نموذج الخداع المتكرِّر في أفلام سوبرمان؛ هذا التنكُّر الهشُّ (عوينات فقط) يكفي لخداع رفيقَيْ عُمْر سوبرمان: جيمي أولسن ولويز لين؛ يعمل معهما في المكتب ليلًا ونهارًا، وهما يشكَّان في كون (كلارك كنت) هو سوبرمان، وبالرغم من هذا ينخدعان بهذا التنكُّر الرديء. القارئ يقبل هذا لأنه يريد أن ينخدع، كما قبِلَ من قبلُ أن سوبرمان يطير، لكنه لن يقبل أبدًا أن يتعرَّض سوبرمان لمادة كربتونايت ولا يموت. هذا هو خليط الإيهام واللاإيهام الذي تكلَّمَ عنه مدكور ثابت. هناك عالَمٌ فيزيائيٌّ خلقه الفنان، والمُشاهِد أو القارئ لا يقبل خرْقَ هذه القوانين الفيزيائية.

تولكين كان يرى أن «التعطيل الإرادي لعدم التصديق» يدل على فشل المؤلف في خلق عالمٍ خياليٍّ متكامل، وهذا العالم يمثِّل «الحقيقة الثانوية» التي يجب أن يؤمن بها القارئ ويعيش فيها، فلا يبذل مجهودًا للتعطيل الإرادي.

الإيهام واللاإيهام واللعب بقواعد العالَم الذي صنعته عملية معقَّدة جدًّا، وتحتاج لحساسية خاصة من الكاتب؛ لهذا يقبل المُشاهِد أن يرى حيةً تتكلَّم، لكنه لا يقبل أن يكون لها جفنان، يقبل أن يطير سوبرمان، لكنه لا يقبل أن يتعرَّض للكربتونايت فلا يموت، يقبل أن تتكلَّم هنادي في دعاء الكروان بهذه الطريقة المثقَّفة الأنيقة، لكنه لن يقبل أن يراها تدافع عن نفسها بالمسدسات. القارئ يقبل أن يخدعه المؤلف — بمزاجه الخاص — لكن هناك لحظة ينقلب فيها عليه، ويعلن أن هذا نصب وتلفيق رخيصان؛ من ثَمَّ يمزِّق الكتاب وينصرف. هذه لحظة قاسية فعلًا.