قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, June 16, 2015

الشعر أم الرواية؟


أعشق متابعة المعارك الأدبية الشَّرِسة التي كانت تدور في العصر الذهبي للأدب العربي المعاصر؛ فهي تعكس حيوية فكرية غير عادية، وتعكس رُقِيًّا شديدًا. ما زلتُ أنبهر عندما أرى معارك لا تتم فيها شتيمة الأمهات أو جرح الأعراض، والأهم أنها معارك لا تدور حول اتهامات اختلاسٍ أو فسادٍ أو تقاضي أموال من نظام كذا وكذا، بل هي معارك حول معانٍ راقية سامية كالشعر والأدب … معارك عقول لا تحمل سلاحًا غير المنطق.


بطبيعته المشاكسة الباحثة عن المعارك حيثما كانت، كان للعقاد الباع الأكبر في هذه الصراعات، وقد قرأتُ عن معاركه فصلًا كاملًا في مجلة الهلال، فشعرتُ أنه قد اختلف مع الجميع تقريبًا.

من ضمن معارك العقاد الشهيرة غير المكتملة معركةٌ مع أديب هامس خفيض الصوت، يفضِّل أن يصغي ولا يتكلم، وبرغم هذا فإن الأديب الخجول هو الذي بدأ الاقتتالَ، ففضَّلَ العقاد الصمت. هذا الأديب الخجول اسمه نجيب محفوظ، والمعركة دارت عام ١٩٤٥.

كتب العقاد في كتاب «في بيتي» بعضًا من آرائه، متصوِّرًا أنه يُجرِي حوارًا مع نفسه، وقد سألَتْه نفسُه عن سبب قلة الروايات في مكتبته، فقال لها إن الشعر أنفس من الرواية بكثير، و«محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة». واستند العقاد بطريقته الصارمة إلى مقياس هو «الأداة مقابل المحصول». كلما قلَّتِ الأداةُ وزاد المحصول، ارتفعت طبقةُ الفن والأدب، وكلما تضخَّمَتِ الأداةُ وقلَّ المحصول، مال إلى النزول والإسفاف، وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات! إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيتٌ كهذا البيت:

وتلفَّتت عيني فمذ بعدت *** عني الطلول تلفَّت القلبُ

أو هذا البيت:

كأن فؤادي في مخالب طائر *** إذا ذكرت ليلى يشد به قبضَا

«لكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه — فيما زعم الرواة — أنه قنطار خشب ودرهم حلاوة!» الخرنوب هو الخروب بطريقة العقاد.

ثم قال ما معناه أن فن القصة شائع وسط طبقات العامة الضحلة الثقافة، بينما عشَّاق الشعر نادرون. في موضع آخَر قال إن القصَّاص قد يكون أخصب خيالًا من الشاعر، لكنه لا يفضله، فنحن لا نفضل الجميز على التفاح لمجرد أن الأرض التي أنبتَتْه أخصب. لعبة لغوية أخرى من ألعابه المعروفة!

الحقيقة أن هذا الرأي لا يخلو من التحامُل والتعالي بلا مبرر، فالعقاد قد جرَّبَ الرواية عندما كتب «سارة» (١٩٣٧) فكانت النتيجة ممسوخةً. هي أقرب لمقال نفسي طويل عن الشك، أو بعض الألعاب اللفظية البارعة. إذن هو لم يملك موهبة الرواية فعلًا حتى ينتقدها؛ ربما هو منطق «العنب فوق الشجرة غير سائغ لأنه حامض». الدليل على هذا أن العقاد اهتمَّ بدراسة الرواية كثيرًا جدًّا، كأنه يحاول فهم هذا الفن المراوغ الذي لم يستطع فكَّ طلاسمه.

النقطة الثانية هي أن شعر العقاد صعب، لكنه ليس بالشعر الذي يحرِّكك أو تستعيده في كل موقف من حياتك، وما زلتُ أرى أن أرق ما كتب هو وصف «البول أوفر» الذي صنعته له حبيبته، فكتب يقول:


ألَمْ أنَلْ منك فكرةً *** في كل شكَّة إبرة
وكل جرة خيط *** وكل شدة بكرة؟


رقيق وبسيط ويصل إلى القلب مباشَرةً، بينما نرى في دواوينه — مثل عابر سبيل — شعرًا متكلفًا على غرار مخاطبته لقرد الجيبون:


أيهذا الجيبون أنعم سلامًا *** يا أبا العبقري والبهلوان
كيف يرضى لك البنون مقامًا *** مزريًا في حديقة الحيوان؟
انتظر يا صديق مليون عام *** أو ملايين لست والله أدري
إن تدانيت بعدها من مقامي *** فقصارى المطاف أنْ لست تدري


لكن العقاد لا يكتفي بالقصيدة بل يضع مذكرة تفسيرية لها: «الجيبون (إنسان الغابة) وحده هو الذي يصلح من الوجهة الشعرية أبًا للفنانين والراقصين لأنه لعوب طروب، رشيق الحركة، خفيف الوثوب … فاسأل نفسك: ما بال هذا القافز الماهر قد وقف حيث هو في سُلَّم الرُّقِيِّ ولم يأتِ على درجات السلم في بضعة ملايين من السنين؟ … إلخ … إلخ.» صفحة كاملة يشرح فيها القصيدة لتجد أن الشعر لم يقف وحده دون عكاز تفسيري. والسؤال الثاني عن محصول هذه الأبيات الذي جنيناه نحن.

ردَّ الأديب الناشئ نجيب محفوظ في صرامة وحِدَّة … كتب مقالًا اسمه «القصة عند العقاد»، يقول في هذا المقال: «كونه لا يقرأ قصةً حين يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوان شعر إنما هو أمر يسلب العقاد حقَّ الحكم على القصة؛ فالرجل الذي لا يقرأ قصةً حين يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوانَ شعرٍ ليس بالحَكَم النزيه الذي يقضي في قضية القصة»

ثم يقول: «الفن — أيًّا كان لونه وأيًّا كانت أداته — تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفَتْ كيفيةُ التعبير تبعًا لاختلاف الأداة، وكلُّ فنٍّ في ميدانه السيدُّ الذي لا يُبارَى؛ ففي عالم اللون التصويرُ سيِّدٌ لا يُعلَى عليه، وفي دنيا الأصوات الموسيقا سيِّدٌ لا يُدانَى وهكذا، فالفنون جميعًا تتفق في الغاية وتتساوى في السيادة، كلٌّ بحسب مجاله، وهي في مجموعها تكون دنيا الأفراح والمسرات والحرية»

ثم يقول: «القصة لا ترمي لمغزًى يمكن تلخيصه في بيت من الشعر، ولكنها صورة من الحياة، كلُّ فصل منها يمثِّل جزءًا من الصورة العامة، وكلُّ عبارة تعين على رسم جزءٍ من هذا الجزء، فكلُّ كلمة وكلُّ حركة تشترك في إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية»

أما عن مقياس شيوع الفن في طبقة معينة فلا معنًى له. الموسيقا منتشرة في كل الطبقات، بينما النحت لا يفهمه سوى قليلين، فهل النحت أعظم من الموسيقا؟ ثم يقول العبارة التي أؤمن بها بشكل مطلق، والتي يعتبرها بعضُ الأدباء والنقاد كُفْرًا صريحًا: «وليس بالسهولة مِن عيبٍ يجرَح الذوق السليم، ولا بالتشويق مِن انحطاطٍ يؤذي الفهم الرفيع» الحقيقة أنهم يعتبرون كون الرواية شائقة أو سهلة جريمة شنعاء.

لقد كانت الرواية بالنسبة لنجيب محفوظ طريقة حياة، وقد قال عن بداياته كدارس للفلسفة: «كان عليَّ أن أقرِّرَ شيئًا أو أُجَنَّ. ومرة واحدة قامت في ذهني مظاهرة من أبطال «أهل الكهف» الذين صوَّرهم توفيق الحكيم، و«البوسطجي» الذي رسمه يحيى حقي، والفلاح الصغير الذي لا يعرف من الدنيا أبعد من حدود عيدان الغاب المنتصبة على حافة الترعة في رواية «الأيام» لطه حسين، وأشخاص كثيرين من أبطال قصص محمود تيمور؛ كلهم كانوا يسيرون في مظاهرة واحدة، وقررتُ أن أهجر الفلسفةَ وأن أسير معهم» كان يرى أن الرواية هي شعر الدنيا الحديثة، وقد راهَنَ عليها طيلة حياته.

لم يردَّ العقاد، ولعل هذا عن تعالٍ واستصغارٍ لشأن أديب ناشئ مثل نجيب محفوظ، أو هو رأى قوةَ منطقِ محفوظ، فكَرِهَ أن يعترف بأن منطقه قد هُزِم.

الجدل حول الرواية والشعر قديم جدًّا جدًّا، وقد دخل أفلاطون وأرسطو في جدل حول هذا، فهاجَمَ الأولُ الشعرَ والشعراءَ هجومًا شديدًا، واستقرَّ رأيه على إخراجهم من دولته المثالية، ثم عارَضَ الثاني أستاذه، فرفع الشعر إلى منزلةٍ فوق التاريخ والفلسفة.

مؤخرًا — عام ٢٠١٠ — كانت هناك مناظرة بين سيد الرواية بهاء طاهر والشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي حول الموضوع ذاته. قال بهاء طاهر إنه لا يؤمن أن فنًّا يمكنه أن يزيح فنًّا آخَر، ولو كان صحيحًا أن هذا الزمن زمن الرواية بمعنى انحسار الشعر، فلن يكون زمنًا للرواية ولا للشعر، وقال إن الفنون — كما تعلَّمْتُ من دراستي التاريخية — تزدهر معًا وتنحسر معًا.

وصل نجيب محفوظ إلى العالمية وصار مقترنًا بزمن الرواية في مصر، وشرفت جائزة نوبل بأن يفوز بها … أعتقد أنه كان على حقٍّ في هذا الجدل