قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, June 22, 2015

شمشون وعنتر



فى رائعة جورج أورويل التى لا تموت أبدا(1984)، نعرف أن البطل يعمل فى وزارة الحقيقة؛ وهى وزارة مهمتها حجب الحقائق وتشويهها. بلغة الكلام الجديدة التى تختصر كل شيء يمكن أن نسميها (الوقيقة). وهذه الوزارة مهمتها تغيير الماضى كأنه لم يحدث، ليصير شيئا آخر.. ومع الوقت تصير هذه هى الحقائق الجديدة وينسى الناس. هل كانت البلاد فى حرب مع ايستاسيا أم يوراسيا ؟ ألم تكن تحارب أوراسيا ؟ تأتيك الإجابة أنك تهذى.. البلاد لم تحارب أوراسيا قط.. ألم يكن فلان موجودا منذ سنين ؟ تأتى الإجابة أنه لم يوجد قط.. إنه Unperson.

تكررت أحداث رواية 1984 بوضوح مع ثورة يناير 2011، حيث تم تشويه الحقائق، وصانعو الثورة تحولوا لخونة، ومن قامت ضدهم الثورة صاروا أبطالا، وأحداث أيام واضحة جلية مثل موقعة الجمل أو محمد محمود تحولت لضباب فلم يعد أحد يذكر من كان المجرم ومن الضحية. والمشكلة أنك تجد دائما من هم على استعداد لقبول أى شيء وتصديقه، وتوجيه أقذع السباب لمن يقولون العكس..

محاولة تغيير الماضى عتيدة فى مصر، ونحن نعرف كيف كتب تاريخ الثورة بعشرين طريقة مختلفة، عندما ترى أفلام ما بعد ثورة 1952 ترى خطوط الكشط التى تشوه صورة الملك المعلقة خلف أبطال الفيلم، وهى محاولة ساذجة لإلغاء حقبة مهمة فى تاريخ مصر. بمعنى أن مصر لم تكن ملكية قط. لكن المثال الطريف الذى يحضرنى اليوم هو فيلم (شمشون ولبلب).. مجرد فيلم كوميدى لكنه يعكس طريقة تفكير كاملة.

هذا الفيلم الظريف رأيناه مرارا فى الفضائيات، وهو من إخراج مخرج من أصل مجرى هو سيف الدين شوكت.. وقد عرض عام 1952 قبل الثورة بثلاثة أشهر. عقدة الفيلم غريبة جدا، وتدور حول الصعلوك لبلب – شكوكو – الذى يتحدى فتوة الحى شمشون – سراج منير – على أن يوجه له كل يوم صفعة، وهذا حتى يكمل سبع صفعات. ثم نرى محاولات لبلب الماكرة للظفر بتوجيه الصفعة لخصم يتوقعها ويتحسب لها. فيلم مسل، كما أنه مفعم باللمسات الذكية للعبقرى بديع خيرى. لاحظ الأستاذ صلاح عيسى أن الحارة التى ظهرت فى الفيلم ترمز لمصر كلها، فهناك عصير قصب الجلاء‏ وجزارة القنال‏ وعجلاتى الوحدة‏ وبقالة السلام. ويقول صلاح عيسى: "أمام توالى الهزائم يلجأ شمشون إلى المناورة‏، ويطالب بفتح باب المفاوضات،‏ لكن أهل الحارة يدركون أنه يريد تمييع الموقف ليكسب الرهان،‏ فيعلن لبلب أنه لا مفاوضة إلا بعد العزال ‏-أى الجلاء‏-‏ ويواصل المواجهة وينجح فى شق جبهة شمشون وجذب زوجته إلى صفه،‏ بعد أن أفشى إليها سر سعيه للزواج من لوزة،‏ مما يمكنه من توجيه الصفعة السابعة إليه‏،‏ فيجلو عن الحارة‏‏ مهزوما وتعيسا بعد أن انتصر الحق على الباطل‏،‏ والعقل على القوة‏.‏ لبلب هو ابن البلد المصرى ويمثل الشعب المصرى الذى يحارب المحتل الدخيل البلطجى (شمشون) وهو رمز للاستعمار البريطانى والأمريكى وللصهيونية ولإسرائيل، ورضوان هو الأنظمة العربية الخائنة والمتعاونة مع الاحتلال والصهيونية، ولوزة هى مصر"

تعودنا على أن السلطات الشمولية تتعامل مع الفن بذكاء غير عادى، وتلتقط الرسائل خيرا من أى أستاذ نقد فنى. لهذا كان هتلر أول من شعر بأهمية فيلم المدرعة بوتمكين السوفييتى مثلا، وقد استطاعت الحكومة فى مصر أن تقرأ الفيلم باعتباره دعوة للضعيف إلى الثورة والانتصار على العملاق، مكتفيا بأنه يمتلك الإرادة والشجاعة والذكاء والحق.

منذ البداية لاقى الفيلم المتاعب، فأوقف عرضه أولا، وسحب من دور السينما، ثم لأسباب غامضة عاد إلى دور السينما بعد ستة أشهر حاملا اسم (عنتر ولبلب). قيل وقتها إن أحد الحاخامات احتج على استخدام اسم أحد أنبياء بنى إسرائيل عنوانا للفيلم، بل إن هذا النبى يتم قهره. من هذا المنطق يصير استعمال اسم شمشون محرما فى السينما المصرية والعالمية للأبد.

عاد الفيلم لدور السينما حاملا اسم (عنتر ولبلب) كما قلت، بل إن الرقابة امتدت إلى الصوت نفسه.. كلما ذكر اسم (شمشون) فى حوار الفيلم تدخل مونتاج صوتى لينطق الاسم (عنتر). يمكنك بسهولة أن ترى شفاه الممثلين تنطق (شمشون) بينما الصوت الخارج هو (عنتر)، وهو جهد غير بشرى فى ذلك الزمن الفقير تقنيا، ولا يمكن فهم أسبابه. هناك قصة مسلية من مختارات هتشكوك عن رجل يكره اللون الأزرق واسمه، وهكذا يعين خادما مهمته ملاحقة اللون الأرزرق فى حياته بالحذف فى كل مكان.. ومن ضمن ما فعله الخادم هو أن جاء بخبير إلكترونيات يركب جهازا على المذياع، وهذا الجهاز يلتقط كلمة الأزرق فى الحوار فيبدلها إلى (أخضر). فيما بعد نعرف أن الرجل كان يلعب حيلة ماكرة غرضها الخلاص من زوجته التى تحمل وحمة زرقاء بين نهديها، لكن هذا ليس موضوعنا. تقريبا فعل السينمائيون نفس ما فعله خادم الرجل.

كانت هناك كما يبدو رغبة زائدة فى مجاملة اليهود، برغم أننا كنا قد خرجنا لتونا من حرب 1948 ولم يكن هناك ود مفقود بيننا، كما أن الفيلم لا يحمل أى إهانة مقصودة للديانة اليهودية، لكنه (النفخ فى الزبادي).

كان هذا عاما متوترا فى حياة مصر بدأ بحريق القاهرة ثم ازدهار حركات مقاومة الفدائيين للإنجليز فى السويس، وبالتالى راحت السلطات تتشمم فى حرص كل عمل فنى يحمل نبرة المقاومة. وتم منع فيلمى (مصطفى كامل) و(الكيلو 99) لإسماعيل يس، لأنها شمت فيهما رائحة المقاومة. ولكن الأمر ما زال محيرا مع فيلم لبلب: هل السبب أن الفيلم ضد الحكومة؟ أم لأنه ضد الرموز الإسرائيلية؟ أم لأنه ضد الاثنين؟ والسؤال الآخر هو كيف اشتركت حكومة الملك مع حكومة الثورة فى نفس التفكير ونفس الرغبة فى المنع؟. وهل لذلك علاقة بما قيل إن مصر كانت فى عام ‏1953‏ تدرس عروضا أمريكية للصلح مع إسرائيل؟ لا أحد يستطيع دخول عقل الرقيب فى ذلك الوقت لنفهم اللغز.

فيلم كوميدى ظريف، لكنه استغرق كل هذا الجهد لتغيير معالمه، وحاليا لا يعرف الجيل الجديد الفيلم، أو لا يعرف له اسما سوى (عنتر ولبلب). فماذا عن أمور أكبر جسامة وخطورة؟