قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, June 25, 2015

الدكتور يقول



في قصة قديمة لي، حكيتُ عن طبيب شاب اسمه ثروت:

«أنت تعرف (ثروت البربري).. عينان ملونتان لهما لون البرسيم، وشعر بني مجعد، وقامة نحيلة. الطبيب الشاب المفعم بالأحلام، والذي يعرف يقينًا أنه سيكون رائعًا وسوف يبهر العالم.. ربما يحكمه كذلك. هنا يجب أن نقول إن نمط (ثروت) شائع نوعًا بين الأطباء، فهو من أصل ريفي، ومنذ دخل كلية الطب نال احترامًا ووضعًا مرموقًا جدًا في قريته.  إنه يفحص المرضى بقلبٍ جريء ويكتب العلاج لهم من أول يوم له في الكلية، وبالطبع يرتكب أخطاء قاتلة، ثم مع الوقت بدأ يتكلم.. يتكلم في السياسة والدين والأدب والفلسفة، وكان يتكلم بلا أي خلفية ثقافية أو قراءات يستند إليها. لكنه تعلّم أن الناس يصغون له باهتمام واحترام.. إن (الدكتور) يتكلم فأنصتوا.  إنه الخلط المعتاد في مجتمعنا حينما يفترض أن المتفوق في دراسته مثقف حاد البصيرة كذلك. وهكذا كانت آراؤه تتخذ صيغة شبه مقدسة، ولكم من مرة جلس رجال واسعو الخبرة شابت شعورهم وشواربهم يتناقشون في قضية ما، ثم يلتفتون نحوه قائلين:
ـ"فلنسمع رأي الدكتور في هذا.."

كان يتنحنح ويتكلم في وقار.. يقول أي شيء، فكانوا يوافقون على كلامه في احترام..

مع الوقت ازداد جَهلًا وضيق أفق.. وازداد غرورًا كذلك.. وبدأ يظهر تململًا كلما سمع مناقشة تدور أمامه في أي موضوع، كأن لسان حاله يقول:
ـ"لم لا تصمتون وتصغون لصوت الحجا؟"

يجب أن يستنّوا القوانين التي تجعله هو المتكلم الوحيد.. 

كنت أنا  طالبًا في كلية التجارة، وقد عرفته عن طريق مسكن للطلاب المغتربين،  فأثار دهشتي أنه لا يعرف أي شيء على الإطلاق. ذات مرة عَرض التلفزيون فيلمًا أمريكيًا، عميقًا، شديد الأهمية والتعقيد، فجلسنا نتكلم عنه.. هنا تدخّل ليُبدي رأيه.. كتمتُ ضحكتي بصعوبة وأنا أسمع آراءه الساذجة في الفن، ورؤيته (العميقة) للفيلم. لكن أثار دهشتي أن رفاقي يصغون له باحترام، ويؤمِّنون على كلامه. مهما قيل فإن المصري يحمل احترامًا عميقًا تاريخيًا للطبيب وللضابط وللقاضي.. مع ترجيح كفة العقل بالنسبة للطبيب؛ لأنه لا يمكن أن ينال شخص كل هذه الدرجات في امتحان الثانوية العامة ما لم يكن حكيمًا.. وهو خلط واضح بين مَلَكة الحفظ من جهة وسعة الاطلاع من جهة، والثقافة والذكاء من جهة..

هكذا عرفتُ (ثروت).. وهكذا كانت بيننا صداقة سطحية لأنني بصراحة لا أطيق الأغبياء.. قد أقبل الجهلة إذا كانوا أذكياء، وهذا نمط لقيته كثيرًا.. مثل بواب البناية التي أقيم بها، ومثل تلك البائعة في السوق التي تشع عيناها ذكاء وألمعية»

كانت هذه قصة قصيرة لي، وبالطبع لا يمكن أن تستخلص رأي الكاتب من قصة له، فما تطالعه هو رأي راوي القصة narrator الذي قد يكون محدود العلم أو كلي المعرفة Omniscient. قد يكون الكاتب متدينًا لكن الراوي ملحد.. وهكذا. لكن هناك مقاطع معينة يمكنك بسهولة أن تعرف أنها رأي الكاتب نفسه وليس الراوي فقط. مثلًا أعتقد أن بعض مقاطع (الذي اقترب فرأى) لدكتور علاء الأسواني تمثّل رأي الدكتور السلبي في المصريين في فترة بعينها. وهكذا يمكنك أن تعرف أن ما ذُكر في القصة هو رأيي فعلًا في نمط معين من الأطباء.

عام 1995 أو عام  1996 اجتزت دورة تدريبية تمهيدًا للحصول على الدكتوراة، عرفت فيها عددًا من زملاء الكليات الأخرى، وهناك تلقيت محاضرات من عدد لا بأس به من أساتذة المناهج وطرق التدريس بكلية التربية، وأعترف أنني لم ألقَ قط عقولًا مرتبة ومنظمة كهذه، ولم أرَ هذا القدر من الذكاء من قبل. كانت أختي أميرة، يرحمها الله، مدرّسًا مساعدًا للمناهج وطرق التدريس بتربية طنطا، وقد عرفت منها الكثير عن طريقة تفكير هؤلاء القوم، وكتبت مرارًا إنه يجب أن تترك لهم عملية تطوير التعليم في مصر، بدلًا من طريقة (بفضل تعليمات السيد الوزير) السائدة. دعك من أنني أصلًا أعتبر مهنة المعلم – الحقيقي – أهم مهنة في الوجود.

من الغريب أنني في تلك الدورات شعرت أن بعض الأطباء – أقول بعض – ليسوا خارقي الذكاء كما يظنهم الناس. بعضهم لم يقرأ كتابًا في حياته ولم يشاهد فيلمًا جيدًا. يعتقدون أن دراستهم للتشريح وأمراض الصدر والكبد كافية ليصيروا عباقرة في السياسة والدين والفلسفة والفنون، ومعظمهم يحبّون ويَطربون لسماع صوتهم وهم يتكلمون. أذكر أن المحاضِر قال إن الوقت ضيق ولا داعي للأسئلة عن جدوى هذه الدورة من فضلكم.. بعد عشر دقائق قالت إحدى الطبيبات في تعال: "هناك سؤال لم يطرح بعد هو: ما جدوى هذه الدورة!"

قال المحاضر، إن الشريحة المعروضة يجب ألا تحتوي ثلاثة ألوان لتجنب إبهار المشاهد وتشتيته، ثم قال إنه يطلب أن نسامحه، ونستثنيه من هذه القاعدة الآن، لأنه يشرحها ومضطر لخرقها.. بعد ربع ساعة أوقفت إحدى الطبيبات المحاضرة لتقول في وقار: "أنت ترتكب أخطاء حذرت منها وتنهى عن خلق وتأتي بمثله.. مثلًا هذه الشريحة تحتوي أكثر من خمسة ألوان!". نظر لها وعلى وجهه تعبير مهذب معناه (أمال – أنا – كنت – بقول – إيه؟) وهكذا أمثلة لا حصر لها.

كان أحد أساتذة كلية الهندسة يقول لطلبته: "عندنا يفتضح أمر الغبي بعد ربع ساعة بينما قد لا يفتضح أمره أبدًا في كليات أخرى". وهو كلام دقيق.. الطب ضمن هذه الكليات الأخرى.

دراسة الطب في مصر تعتمد كثيرًا جدًا على الحفظ.. وقد كنت أقول ساخرًا إن أوائل القسم الأدبي يجب أن يدخلوا كلية الطب بلا مناقشة. أحيانًا يكون المنطق غريبًا ويدعو للشك،  لكن دراسة الطب في مصر تعلمك عدم طرح أسئلة.. وهذا غريب.. هكذا يتم تداول المعلومة دون تمحيص، وتورث من جيل لجيل بلا توقف. ليس هذا هجومًا على الأطباء فأنا طبيب، لكني أطالب الطبيب ألا يعتبر ما درسه في كلية الطب ثقافة كافية، وألا يعتبر تفوقه الدراسي دليل ذكاء.

حديثًا بدأت موضة حميدة هي (الطب المستند على دليل Evidence based medicine)، حيث لا تقبل أي معلومة بسهولة ما لم تحقق شروطًا معينة، وتقبلها قاعدة بيانات كوكران العالمية.  كما أن مناهج فلسفة العلم والابستمولوجية وطريقة التفكير العلمي بدأت تنتشر. للمرة الأولى أرى محاضرات عن طريقة تصميم بحث علمي أو التحليل الإحصائي أو تحليل مشكلة. وهكذا بدأ ذلك العالم الساحر الذي أطلعنا عليه أساتذة المناهج وطرق التدريس يتسلل كالشمس إلى عالم الطب. فقط أتمنى لو يتخلى د. ثروت عن كبريائه قليلًا ويحضر واحدة من تلك الدورات