قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, January 3, 2016

في انتظار العام 2000


من حين لآخر أبحث عن ذاتي التي تمزقت وبعثرتها الأحداث والأيام، فأجد شلوًا هنا وشلوًا هناك. من حين لآخر أرجع لموقع عرب كوميكس الرائع، الذي قام بأرشفة وتوثيق معظم تراث القصص المصورة الموشك على الاندثار، ليحوله إلى ملفات رقمية باقية للأبد. في هذا الموقع وجدت أعدادًا من مجلات قرأتها وأنا في الثامنة من عمري مثلاً ثم اندثرت، وحسبتها قد ضاعت للأبد فوجدتها هناك. هم بحثوا عنها بطرق أقرب للمعجزة وصوروها.

ليس هذا موضوعنا على كل حال، فقد كتبت مقالاً طويلاً عن ذلك الموقع من قبل هنا

الموضوع هو عن عدد طريف من مجلة ميكي صدر عام 1966، وهذا العدد يحلم بما سيكون في العام 2000. كان العام 2000 وقتها يبدو بعيدًا غامضًا على بعد 34 سنة .. نفس منطقنا عندما نتكلم عن عام 2050 اليوم. يمكنك تحميل هذا العدد الساحر من هنا (وإن كنت ستحتاج إلى التسجيل في الموقع وتحميل برنامج لقراءة ملفات cbr)، وبالطبع لا توجد قرصنة هنا.


لاحظ الغلاف الذي رسمته ريشة العبقري حجازي.

في تلك الأيام كانت المجلات المصرية كلها تحمل درجة عالية من التفاؤل والثقة.. أعوام ما قبل السقوط من حالق في 1967.  وهي هزيمة مريرة قاسية بالتأكيد. قاسية لأننا صممنا على أن نظل أسراها للأبد، وهكذا صارت انتصارًا ساحقًا لإسرائيل، لأنها كانت نصرًا على إرادة أمة وليس على جيشها. في تلك الأعوام كانت المشكلة الرئيسة في المجلات والصحف هي مشاكل كرة القدم والترسانة والأوليمبي والفناجيلي ... إلخ. لم يختلف هذا العدد عن ذلك. اطمئنان تام للغد ولقوة الدولة...

هذه تجرية جريئة تستحضر جموح وجنون فنانين مثل حجازي ومجدي نجيب والليثي. لا شك أن هناك الكثير من السذاجة في التصور، لكنها نفس سذاجة كتاب الخيال العلمي الدائمة، والني نكف عن اعتبارها سذاجة عندما تتحقق أحلامهم. تتخيل المجلة شكل مصر سنة 2000 فتقول إن طعامنا وقتها سيتم استخلاصه من البترول، وستكون وجبة الغذاء في حجم حبة القمح!. كل عمارة مدينة كاملة من ألياف الزجاج الملون، وهناك مهبط للطائرات على السطح.. البيت مزود بعجلات تنقله حيث تشاء، أو ربما تفضل أن تطير بالبيت في الفضاء أو تسكن تحت الماء. الانتقال يتم بالحزام الطائر فلا توجد مواصلات. الثياب عبارة عن مادة رغوية ترشها على جلدك فتتحول لثياب. الاتصالات ستكون عن طريقة رسالة تمليها لجهاز تسجيل ثم يطير الجهاز لينقل الرسالة لصديقك. ويتخيل العدد أن هناك أشياء ستكون في المتاحف مثل الساعة والراديو. لاحظ أن العدد يتكلم عن مصر بالذات


اقرأ هذه القصيدة لمجدي نجيب:


ظن مجدي نجيب الشاعر الرقيق أننا سنكف عن أكل الفول والفجل والكرات سنة 2000، وعلى الأرجح سنكف عن أكل البروتين الحيواني. بالطبع جاءت سنة 2000 وذهبت منذ 15 عامًا، ويمكننا أن نقارن واقعنا بهذه الرؤى الطوباوية المتفائلة. لا شك أن الصدمة قوية بالنسبة لدول العالم المتقدم، فماذا عنها بالنسبة لدولة نامية مثلنا؟

كثيرون من كتاب الخيال العلمي وقعوا في ذات الخطأ، فكان تفاؤلهم مبالغًا فيه. هل تذكر عالم 2001 كما رآه العبقري ستانلي كوبريك في أوديسا الفضاء؟ شاهد لقطة من الفيلم الساحر هنا مع موسيقا شتراوس الرقيقة. الكمبيوتر هال المعذب نفسيًا، والرحلات إلى كوكب المشترى، والمحطات الفضائية التي يقيم فيها الرواد عدة سنين.. و.. المفترض أن هذا تم فعلاً منذ 15 سنة!.   شيء مخيب للأمل أن تقارن بين خيالهم وما نحن فيه فعلاً. لقد تعثر العلم فلم يحقق ما كان مأمولاً منه، أو برهن على أن سرعته بطيئة جدًا..

حتى على مستوى الحرب،  نحن لم نر أي حرب بقنابل جاما وشعاع الليزر. لقد كانت بندقية الكلاشنكوف سلاح القرن العشرين وستظل سلاح القرن الواحد والعشرين كما هو واضح، أما القنبلة الذرية فعمرها يقترب من سبعين عامًا!

لو جاء لعصرنا واحد ممن كتبوا ورسموا هذا العدد لمجلة ميكي فلسوف يجد أن الأمور لم تتغير كثيرًا عن عام 1966.. ربما أصابه الرعب لتدهور أمور كثيرة عما كانت. نفس رعب بطل (آلة الزمن) لويلز عندما سافر مليون سنة للمستقبل ليكتشف أن مشكلة الطبقية زادت توحشًا، ونفس رعب توفيق الحكيم عندما وصف الولايات المتحدة فقال إن التقدم لم يلغ الجريمة بل جعلها أكثر تعقيدًا وبشاعة.   
بالغ كتاب الخيال العلمي في التفاؤل بصدد كثير مما تخيلوه، بينما لم يتخيلوا قط أن تصل ثورة الاتصالات لهذا التقدم. حتى في عدد مجلة ميكي المذكور يتحدثون عن جهاز تسجيل يأخذ صوتك ويطير لصاحبك. لم يكن مفهوم الإنترنت والايميل واردًا. أن تحمل هاتفك في يدك وتمشي به في الشارع وتتصل بالولايات المتحدة أو فرنسا في أي وقت.. هذا شيء لم يخطر لهم قط. أذكر أنه لم يكن عندنا هاتف في البيت وكانت البناية كلها تعتمد على هاتف واحد في شقة الجيران، ثم دخل الهاتف لكنه لم يكن فيه خاصية النداء المباشر، من ثم كان عليك لتتصل بدمنهور أن تأخذ يوم إجازة تقضيه في السنترال مع شطائر وزمزمية ماء بانتظار اللحظة السحرية عندما ينادون رقمك فتهرع للكابينة. وكان بوسع أي واحد في طنطا أن يسمع تفاصيل المكالمة لأنك تصرخ. لم يحلم أحد بالإنترنت... لم يحلم أحد بالفضائيات.. أيام حرب العراق كنت أرى على شاشة  الجزيرة أربعة أقسام.. هناك قسم للمذيع الذي يقف مع القوات العراقية.. مذيع يجلس في القيادة الأمريكية.. مذيع في مطار هيثرو ببريطانيا يراقب الطائرات ب-52 وهي تستعد للإقلاع.. مذيع في الولايات المتحدة ينقل الأخبار من البنتاجون..

المشكلة الأخرى هي أننا نستعمل هذا كله.. نستهلك هذا كله، لكن ماذا صنعناه نحن؟

سوف أتركك الآن مع أغنية قديمة تعود لعصر السذاجة – عام 1969 –  تتنبأ بما سيحدث في المستقبل. استمع إليها هنا. تقول ضمن كلماتها: 
في العام 3535
لن تحتاج إلى قول الحقيقة ولا قول الأكاذيب
كل ما تفكر فيه أو تفعله أو تقوله 
هو في القرص الذي ابتلعته اليوم.. 
في العام 4545
لن تحتاج إلى أسنانك ولن تحتاج إلى عينيك
فلن تجد شيئًا تمضغه
وما من أحد سوف ينظر لك..
في العام 5555
ذراعاك تتدليان مترهلتين إلى جانبيك
وقدماك ليس لديهما ما تعملان
هناك آلة تؤدي كل هذا لك..

ما زال العام 3535 بعيدًا على كل حال... لربما تحقق كل شيء وقتها!