قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, January 14, 2016

لا تتراجع.. اكذب!



طبيب امتياز قليل الخبرة، وحده تمامًا في استقبال الأمراض الباطنية في المستشفى البارد المظلم، والساعة الواحدة بعد منتصف الليل. هذا أنا منذ ثلاثين عامًا تقريبًا. استدعاء الطبيب المقيم، النائم في مسكن الأطباء الدافئ مستحيل، ما لم يكن المريض التالي هو حسني مبارك أو رئيس الوزراء نفسه.

في الخارج تصل سيارة الشرطة (البوكس) الكئيبة، ويهبط منها ثلاثة رجال أحدهم يتلوى ألمًا، وكلهم يرتدون ذلك السويتر الأسود "المزرر" الذي يزعق بأن صاحبه (داخلية). على فراش الفحص يرقد المخبر (صُبحي) يئنُّ ويتأوه.. أتحسس بطنه بيدٍ باردة (برغم أنني نفخت فيها مرارًا). علامات التهاب المرارة الحاد واضحة، وفي ذلك الوقت كانت الموجات الصوتية نوعًا من الترف العلمي الذي تحظى به الحوامل فقط، لذا كنا نعتمد على الحدس الإكلينيكي. طلبت من الرجلين – المخبرين – أن ينهيا له إجراءات دخول المستشفى، وبدأت إعطاءه بعض المحاليل والمسكنات والمضادات الحيوية. بعد ساعة جاء ضابط حديث السن على قدر من اللطف والإنسانية وقف جوار فراش صبحي، ثم سألني عن حالته فقلت إنها التهاب حاد في المرارة. سألتي في تعاطف: "هل هي حالة مؤلمة؟". أجبته بثقة وعلم: "جدًا".  لمحت دمعة تترقرق في عينيه وقال لمساعد شرطة معه: "لا حول ولا قوة إلا بالله.. لقد كلّفناه فوق ما يطيق، وكان يتعذب ونحن لا نعرف".

هنا حانت منّي نظرة للمريض، لمحت اختلاجة معينة في ركن فمه. وكانت عيناه مغمضتين بعصبية. ثمة قاعدة غير مكتوبة تقول إن مريض آلام البطن العنيفة لا يغمض عينيه، بل يراقبك ويراقب يدك في هلع منتظرًا ما ستفعله ببطنه، ولكن من يغلق عينيه هو غالبًا الهستيري أو المتمارض. رحت أمعن النظر أكثر، فأدركت أنه يبالغ في الألم فعلًا ويضغط على شفتيه أثناء وجود الضابط. أنا قليل الخبرة لكن (صبحي) ليس مريضًا إلى الحد الذي ظننته لأول وهلة. أقسم على هذا.. سألني الضابط عما إذا كان عم صبحي سيحتاج لشيء ثم انصرف آسفًا مع مرافقه. بعد ساعتين عدت للعنبر فلم أجد الأخ صبحي.. وجدته يقف هناك في الردهة يدخن، ويمازح الممرضة الحسناء السهرانة مزاحًا لفظيًا جنسيًا. الوغد كان يتمارض وكان يعرف كيف يعطي انطياعًا وهميًا بالتهاب المرارة.

نظر لي في ارتباك فطلبت منه أن يتبعني لغرفة الفحص. وهناك جلست وقلت له في حزم:
- "أنت متمارض.. لكني متورط في تشخيص خاطئ كذلك، وبسببي فررت أنت من نوبتجية الليل، ولا شك أن ضابطك الطيب يقتل نفسه الآن من تأنيب الضمير. إذن لنتفق.. في الصباح الباكر تخرج من المستشفى ولنقل إن الله شفاك بفضله".

هكذا عاد للعنبر لينام في سلام، وفي الصباح ابتاع لنفسه أربع شطائر فول وطعمية وانصرف.

كان هذا هو درسي الأول عن أن التورط في الخطأ قد يجعل التراجع مستحيلًا.. لا يمكنك أن تفضح الحقيقة أحيانًا، خاصة إذا بلغ تورطك درجة معينة.

تكررت هذه التجربة عندما كنت في باتايا بتايلاند. هناك شاب مهذب من المجموعة المصرية ابتاع حقيبة من السوق هناك (حقيبة عليها نقش فيل طبعًا كأي شيء في تايلاند!)، وهذه الحقيبة وضعها في حقيبة أكبر، فلما دخل غرفته بعد جولة سياحية لم يجدها. حقيبة رخيصة فارغة لا قيمة لها تقريبًا لكن المبدأ واحد. السرقة هي السرقة. قدَّم شكوى لإدارة الفندق وسرعان ما انقلبت الدنيا رأسًا على عقب كأن ما سُرق طن من الذهب. جاء رجال الشرطة واستجوبوا كل العاملين وصوروا المكان. واستطعت أن أدرك من وجوه العاملات الممتقعة الحزينة و(القرف) الذي يتعاملن به – بعد عذوبة ورقة ضحكاتهن – أنهن تعرضن لمعاملة قاسية واستجوبن مرارًا وربما طردت واحدة أو اثنتان منهن. وضع كل المصريين حاجياتهم في خزانة الأمانات. مرت أيام متوترة حتى جاء موعد المغادرة، فجلس الشاب المصري جواري في الحافلة. ونحن نتحرك همس في أذني:
ـ "على فكرة.. وجدت الحقيبة. كنت قد وضعتها في جيب الحقيبة الكبيرة ونسيت !"

تبادلنا النظرات.. لماذا لم تعلن هذا يا أخي؟.. قال في مرارة:
ـ"لم أجرؤ.. بعد كل هذه الضوضاء لم أجسر على أن أعترف".

ساد الصمت بينما الحافلة تتجه لبانجوك..وتذكرت كل المشاهد السينمائية التي مر بها الفندق مؤخرًا. لو كنت مكانه لالتزمت الصمت فعلًا. لا أملك كل هذه الشجاعة الأدبية.

عرفت هذا الموقف مرارًا مع الفتيات المخطوفات أو الأولاد المخطوفين. عندما يعود المخطوف ويكتشف أهله أنه لم يُختطف بل فر ثم عاد للبيت عندما شعر بالجوع. عندما يحدث هذا فإنهم يحتفظون بالكذبة ويصممون على قصة الخطف، حتى لو كان الثمن هو الهلع الذي يصيب مدينة كاملة.

هناك نوع آخر من الكذب هو كذب الحفاظ على الصورة المثالية للأشخاص. لم يعترف أي أمريكي تقريبًا بأن رجال إطفاء نيويورك الأبطال سرقوا معاطف الفراء من متاجر الطابق السفلي بمركز التجارة العالمي، بينما البناية تحترق وتوشك على التهاوي. لا أحد يجسر على ذكر حقيقة كهذه حتى من هم موقنون منها. رأينا في فيلم عمر المختار كيف أن عمر المختار أطلق سراح ضابط إيطالي شاب مع علم الفرقة ليحذر زملاءه.. لكن جراتسياني يجعل من هذا الضابط بطلًا حربيًا استطاع أن يحافظ على علم فرقته. فيما بعد تخلصوا منه أثناء إحدى المعارك.

على أن أقوى الأمثلة التي أتذكرها في الفن هو مثال الفتاة البريطانية الكذوب في رواية فورستر الرائعة (ممر إلى الهند)، والتي صارت فيلمًا أروع لديفيد لين. الفتاة مفعمة بالخيالات الحسية السرية، لذا لفقت قصة كاملة عن الطبيب الهندي المهذب (عزيز) الذي قادها لأحد الكهوف واغتصبها. كل البريطانيين في الهند معها وكلهم يطالبون بشنق الهندي الحيوان. فقط عندما يلوح بصيص من الحقيقة يثور الجميع عليها، وعندما تتكلم أخيرًا وتعلن أن د. عزيز بريء، يصاب البريطانيون بالذهول ويلعنونها. لقد انتحرت اجتماعيًا. لقد جلبت العار على التاج البريطاني ليس بكذبها بل باعترافها بالكذب.

هكذا ترى أن الكذب أو النكران قد يتم برضا جميع الأطراف، ولأن هذا هو السبيل الوحيد.

لماذا تذكرت هذا الموضوع الآن؟.. شرح هذا يطول على كل حال..  صاحب الشأن المعني بهذا الكلام يعرف!