قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, April 10, 2016

كان صبيًا في السبعينيات


كان صبيًا في السبعينيات، وكنت أنا مثله، لذا أحببت هذا الكتاب كثيرًا..

نغمة النوستالجيا أو الحنين للماضي محببة دائمًا، ولا تفشل في أن تمس شغاف القلب. هناك أكثر من برنامج مثل (صاحب السعادة) يعتمد على النوستالجيا بنجاح تام، وهناك كليبات مفضلة جدًا على يوتيوب، مثل هذا الكليب الذي يعيد لك ذكريات الصباح السمعية كلها. أحيانًا يبلغ الحنين بالمرء درجة أن يبتكر ذكريات عزيزة لم توجد قط، وقد سخر إعلان الاسكنشايزر الشهير بذكاء من هذا.

يظهر في معرض الكتاب عن دار الكرمة كتاب الأديب والناقد الفني (محمود عبد الشكور) ، ومعه طوفان كامل من كتبه الأخرى التي ظهرت كلها في وقت واحد. راق لي الكتاب كثيرًا هو وكتاب سينمانيا، فحرصت كالعادة على البحث عن رقم هاتف الكاتب واتصلت به – بعد جهد – لأهنئه. كانت هذه المرة الأولى التي أسمع صوته فيها.

محمود عبد الشكور ناقد سينمائي وأدبي ولد عام 1965. أي أنه أصغر مني بثلاثة أعوام. وقد نشر مقالاته في عدد كبير من الصحف والمجلات، مثل جريدة اليوم السابع الباريسية والقبس الكويتية وروز اليوسف والتحرير واليوم الجديد. وكان في لجان المشاهدة لمهرجان القاهرة، كما أن له سلسلة طويلة من المقالات النقدية جمعها في كتاب (سينمانيا) وحاليًا هو نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر.


المشكلة الرئيسة في الكتاب هي تدفق الذكريات الذي لا يوقفه شيء. الكاتب يتحرك في الماضي والحاضر والمستقبل بلا توقف، ولربما عاد بك أعوامًا للوراء فجأة. ويصب عليك سيلاً مرهقًا من الخواطر كأنه يريد أن يحكي كل شيء ممكن في 377 صفحة. ذكرني نوعًا برواية جميلة للأديب محمود قاسم، اسمها شارلستون، وتحكي عن أديب (كان شابًا في السبعينيات).


الكتاب عبارة عن ثلاثة خيوط مجدولة تتابع رحلة نمو طفل نحو فهم العالم. طفل متعطش للمعرفة. الأمر يشبه رحلة البطل Monomyth التي وصفها كامبل، لكنه يتحرك أمام ثلاث خلفيات: خلفية الأسرة.. خلفية السياسة.. خلفية الثقافة.

يبدأ الكتاب من لحظة درامية هي حالة الحزن التي اجتاحت كل بيت لدى وفاة عبد الناصر. حقبة السبعينيات تبدأ بداية قاسية. الأب المدرس الذي درس الفلسفة، الذي ينتقل وأسرته معه من شبرا في بداية الكتاب إلى الصعيد، والذي علم ابنه حب القراءة والثقافة، خاصة أنه يفخر بأنه ناقش رسالة الماجستير أمام زكي نجيب محمود وتوفيق الطويل.. أب كهذا لابد أنه ترك أثرًا لا يمحى لدى ابنه. الكاتب ولد في الصعيد في نجع حمادي، وهو يحكي لنا عن تجربة حرب 1967 وهو في الصعيد، مع الطقس الأهم في ذلك الوقت وهو دهان كشافات السيارات بلون أزرق، أو إلصاق ورق على زجاج النوافذ. الحقيقة أن وصفه لقريته في الصعيد وحياته وألعاب الأطفال قطعة من الفن الرفيع.

تقابله عندما يكتشف الخطيب وحسن شحاتة، وتقابله عندما يستمع لأبلة فضيلة، بعد ما تستمع أمه لبرنامج ربات البيوت. يتذكر كل شيء حتى مسلسلات شويكار التي كانت تلوي الكلام وتتدلل فيها، وخاصة مسلسلها (سها هانم رقصت على السلالم) الذي أوقفه وزير الإعلام عبد المنعم الصاوي. والصدام الأول مع الحكومة القمعية عندما جرؤ زميله في الفصل على السؤال عمن هو محمد نجيب، فأخرسته المعلمة المذعورة. كان هناك قانون غير مكتوب يقضي بأن هذا الرجل لا وجود له.

طقوس الذهاب للسينما مع أبيه مهمة جدًا، وفي تلك الأعوام يولد عشق السينما الذي ذكره بفيلم سينما باراديسو. كان أبي يشتري شطائر السجق من عواد، بينما كان أبوه يشتري شطائر الطعمية الساخنة. يتذكر أفلام تلك الفترة مثل الشياطين في إجازة ومن البيت للمدرسة. يتذكر الثياب المزركشة و البنطلون الشارلستون والسوالف التي تقلد محمود ياسين.

أول لقاء له مع التلفزيون كان يوم مباراة الأهلي وسانتوس البرازيلي التاريخية عام 1972. شاهد لقطات منها هنا. الأهلي يواجه العملاق البرازيلي بيليه الذي أحرز هدفين، وأحرز سانتوس خمسة أهداف. انبهر محمود بالتلفزيون والصوت الذي يصدر عند الفتح والدقيقة التي يسخن فيها المصباح. يتذكر كذلك إعلانات تلك الفترة ومنها أغنية شهادات الاستثمار التي تسمعها هنا والتي أعتقد أنها تلحين الشيخ إمام، في الفترة التي حاولت فيها الدولة تدجينه.

يستعرض هنا مجموعة هائلة من الأغاني الوطنية الدينية التي كانت سائدة وقتها. ويتذكر المسلسلات الأجنبية مثل برنابي جونز، والمصرية مثل القضبان. كل من عاش في السبعينيات يذكر تحفة القضبان. والتتر بصوت مطرب شاب ضحوك وسيم بدأ اسمه ينتشر وقتها، ويدعى هاني شاكر.

ثم جاءت حكاية الطائرة الليبية المدنية التي أسقطتها اسرائيل فوق سيناء، وعليها وزير خارجية ليبيا وماما سلوى حجازي مذيعة الأطفال. شاهد لقطات الحادث هنا.

بعد هذا يتذكر أهم رمضان مر بمصر عندما قامت حرب 1973 وكيف اشتعلت حماسة الناس وكيف التف الجميع حول السادات. يتذكر بالطبع أغنية حلوة بلادي، ورايحين و .. و ..، ويتذكر خطاب السادات أمام مجلس الشعب. وردة الجزائرية لم تكن من معالم السبعينيات المهمة.. أحيانًا أعتقد أنها السبعينيات نفسها.

عام 1975 يتم نقل أبيه إلى فرشوط فيفارق البلدة التي منحها كل الحب ومنحته كل الذكريات. ثم تحدث وفاة أم كلثوم في 3 فبراير. لم يكن يعرف عنها الكثير لكن الجنازة أذهلته. تذكر المشهد هنا.

تقريبا وقعت في يده نفس الكتب التي وقعت في يدي، مثل مذكرات مانسون.. وقصة حياة أوناسيس ووثائق حرب أكتوبر. وبالطبع كان لابد أن يقع في قبضة محمود سالم ومغامريه الخمسة التي لم يفلت منها مراهق في السبعينيات.


ثم جاء الحدث الذي غير تاريخ المزاح وتاريخ النكات وتاريخ التعليم في مصر للأبد: مسرحية مدرسة المشاغبين الغنية عن أي تعريف، والتي أحبها الناس لدرجة أنهم كانوا يذيعونها كلما حدثت مظاهرات أو قلاقل في الشارع ليبقى الناس في بيوتهم، مثلما حدث في انتفاضة الخبز في يناير. شاهد لقطات من الانتفاضة هنا.

هكذا يمضي الكتاب في رحلة طويلة تتنقل بسرعة بين تاريخ الأسرة والواقع السياسي والفن والأدب. هكذا يمكن أن تجد واقعة اغتيال الشيخ الذهبي في نفس الفصل مع ظهور فريق آبا وفور إم، ومع أغنية قارئة الفنجان.

الكتاب ممتع بلا شك، لكن تلخيصه بأمانة مهمة مستحيلة، لأنه طويل ومكتنز بالذكريات، إلا لو كان بوسعك أن تلخص استعراضًا راقصًا أو لحنًا أو قصيدة.

لو كنت صبيًا أو رجلاً في السبعينيات فأنا أوصيك بقراءة هذا الكتاب، أما إن كنت لم تولد في السبعينيات، فأنصحك بأن تطالعه لتعرف كيف كان العالم يتحرك قبل مجيئك.