قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, August 20, 2016

أين نغزو بعد هذا؟



كل فيلم جديد لمخرج الأفلام التسجيلية الأمريكي مايكل مور، حدث ثقافي مهم، فهو قد نجح في تحويل الفيلم التسجيلي إلى نوع راق من التسلية، التي تمزج الوعي السياسي بالسخرية، مع شخصية مور نفسه التي تظهر بكثافة في الفيلم كمحاور وممثل.

وهنا تكتشف كيف يقدر مخرج أفلام تسجيلية على أن يصير نجمًا كذلك .. إنه جذاب له كاريزما هائلة، بالإضافة إلى ميول استعراضية لا شك فيها. ولا شك أن منظره المميز وبدانته ينتميان لنفس عالم هتشكوك وكوبولا .. عندما يكون المخرج صاحب أكبر اسم على البوستر


ولد مور عام 1954 .. قدم الفيلم التسجيلي الأكثر دخلاً في تاريخ السينما (فهرنهايت 9/11) عام 2004 عن فترة حكم بوش وغزو العراق، كما قدم فيلم (لعب البولينج من أجل كولومبين) الذي فاز بجائزة الأوسكار عام 2002. الفيلم يتحدث عن جريمة عنيفة ارتكبها مراهقان، من تلك الجرائم التي تهز المجتمع الأمريكي كل حين. الجرائم التي يطلقون عليها اسم (أموك) . الفتيان لعبا البولنج ثم ذهبا ليطلقا الرصاص على زملاء المدرسة في كولومبين، وهذا تفسير الاسم الغريب. شاهد تريلر الفيلم هنا

تكلم مور باستفاضة عن سياسة العنف وعشق السلاح لدى المجتمع الأمريكي، وحاول تحليل الظاهرة نفسيًا. كان له لقاء طريف مع النجم ستيف ماكوين الذي يؤيد امتلاك السلاح بلا قيود .. وسط المناقشة الحامية نهض ماكوين وغادر المكان ليترك المخرج وطاقم التصوير في مأزق كيفية الخروج من القصر وسط الحراسة والكلاب. في الكليب التالي يحكي مور في سخرية عن حالة الخوف المزمنة التي عاناها الأمريكان منذ جاءوا من أوروبا من ثم وقعوا في غرام السلاح. 

في حفل الأوسكار بينما هو يتلقى الجائزة عن هذا الفيلم، ألقى خطابه العنيف الشهير الذي يشتم فيه بوش، ويقول : "نحن نعيش في عصر مزيف، تجرى فيه انتخابات مزيفة، تأتي برؤساء مزيفين يشنون الحروب على العراق لأسباب مزيفة". كالعادة قاطعته الموسيقا العالية لكنه كان قد أرسل رسالته للعالم. شاهد هذه اللقطة هنا. ثم ظهرت برباره سترايساند لتقول بضحكة تقطر سمًا إن هذه مزية الحياة في أمريكا، حيث تستطيع أن تقل أدبك على الرئيس أمام العالم كله ثم تعود لبيتك سليمًا. والحقيقة أن كلامها دقيق. 

في العام 2007 قدم لنا فيلم سيكّو Sicko عن انهيار الخدمات الصحية في أمريكا. وقد أعجبني هذا الفيلم جدًا وكتبت من وحيه مقالين، لم أجد الأول بينما الثاني هنا

مؤخرًا شاهدت فيلمه الأخير (أين نغزو بعد هذا ؟) والذي يمكنك أن تشاهد التريلر الخاص به هنا. وهو أول فيلم له بعد توقف ستة أعوام. في هذا الفيلم يكرر مايكل نغمة انتقاده الحاد للمجتمع الأمريكي، وهي نغمة يفهمها بعض ضيقي الأفق على أنه معاد لكل ما هو أمريكي، ويهوى جلد الذات. الحقيقة أنه يريد لبلده أن يكون أروع بلد في العالم، لهذا ينظر في حسد إلى أوروبا ليشعرك بأنها جنة. هذه النغمة كانت عالية جدًا في فيلم (سيكّو) حيث أعطاك الانطباع أن العلاج المجاني حق متاح لكل فرد بالعالم ما عدا الأمريكان!

هنا يكرر نفس النغمة، وإن كنت بصراحة لم أحب الفيلم كثيرًا. شعرت بأنه لا توجد مشكلة أصلاً وأنه يريد تقديم فيلم بأي مبرر. هناك قدر لا بأس به من لي عنق الحقائق. كما أنك تشعر بغيظ لأن مشاكل هؤلاء القوم مترفة فعلاً. مع كل مشاكلنا هذه ليس لدى المرء البال الرائق لمعرفة أن طعام الأطفال في مدارس فرنسا أفضل من طعام أطفال أمريكا. إذن ماذا عن مدارسنا التي بلا طعام أصلاً، أو تقدم للأطفال جبنًا سامًا؟ بل ماذا عن عدم وجود مدارس أصلاً؟

يبدأ الفيلم باستدعاء وهمي لمايكل مور إلى البنتاجون حيث يواجه القواد مشكلة: لقد غزونا كل مكان وصنعنا كل شيء ممكن، وضيعنا تريليونات الدولارات كي ندمر العراق وتولد داعش .. لم يعد هناك ما نفعله حاليًا .. ما الذي نغزوه بعد هذا؟. يقرر مايكل مور أن يجوب العالم بحثًا عن تجارب ناجحة لدى الشعوب الأخرى .. كلما وجد فكرة جيدة وضع عليها العلم وصادرها باسم الولايات المتحدة.

هكذا تنتقل الكاميرا عبر عدة بلدان أوروبية .. مثلاً في إيطاليا يقابل زوجين (من الأعداء) يخبرانه أنهما ينالان إجازة مدفوعة الأجر مدتها 30 يومًا كل عام. بل إنهما يتلقيان أجرًا في الأعياد الرسمية، ويتقاضيان راتبًا لشهر وهمي هو الشهر 13 كل سنة! يمكنك أن تتخيل وجه مور وهو يسمع هذه المعلومات العجيبة. ويقابل أحد كبار رجال الصناعة الإيطاليين الذي يؤكد له أن الإجازات مهمة لأنها تزيد الإنتاج. يخبرنا مور إن العالم كله يعطي الأم أجرًا خلال إجازة الوضع باستثناء بلدين فقيرين هما بابوا غينيا الجديدة والولايات المتحدة ! يقرر مور أن يأخذ الفكرة لبلده ويغرس العلم كناية عن استيلائه عليها. يقول معلقًا وهو ينصرف: "إيطاليا لديها مشاكلها .. لكني اليوم أجمع الأزهار لا الأشواك".

في فرنسا ينبهر جدًا بمطعم فاخر يقدم أرقى أنواع الطعام، فقط ليخبرنا أن هذا طعام التلاميذ في مدرسة فرنسية عادية.. الأكل هنا حصة كأي حصة، يتعلم فيها الأطفال ثقافة المائدة واستعمال أدوات الطعام. وعملية الأكل تستغرق وقتًا طويلاً جدًا. يعرض على الطاهي صورًا من طعام أمريكي، فيبدي هذا شفقته واشمئزازه من هذا الشيء الذي يعذبون به الأطفال الأبرياء في امريكا! شاهد هذا المشهد الطريف هنا. نقطة أخرى مهمة هي الثقافة الجنسية التي يتعلمها التلاميذ بلا حدود وبصراحة صادمة. برغم أن أمريكا لا تعلم هذه الأمور، فلديها أعلى معدل لحمل المراهقين في العالم. 

أما أهم اجزاء الفيلم فهو الجزء الخاص بالدولة الأفضل في التعليم (فنلندا)، وقد وصلني هذا الكليب عدة مرات. إن المفاجآت تتوالى وتنهال على رأس مور المغتاظ وعلى رءوسنا طبعًا. كانت فنلندا والولايات المتحدة في قاع قائمة التعليم.. ثم جربت فنلندا أن تتطور. لا توجد واجبات منزلية على الطلبة!.. يجب أن يكون لديهم وقت ليمارسوا طفولتهم. يجب أن يكون لديهم وقت للاجتماعيات والرياضة والقراءة. أكثر وقت ممكن لعمل فروض مدرسية هو 15 دقيقة. كانت ابنتي مريم طفلة في العاشرة، وكانت تظل تكتب الفروض المدرسية من الثالثة مساء حتى الحادية عشرة ثم تنام مرهقة تعسة، بانتظار يوم كئيب آخر. هنا في فنلندا اليوم المدرسي ثلاث أو أربع ساعات. لا أعرف اللغز الذي يجعل هؤلاء الأطفال يتعلمون أي شيء في دراستهم، لكن الأمر جدير بالدراسة والفهم. معظم الطلبة يجيدون أكثر من لغة، ومعظمهم دخلوا برامج تبادل الطلاب. يصارحهم مور بأن المدارس الأمريكية لا مجال فيها لتعلم الفنون ولا الشعر لأن الوقت ضيق. لا توجد في فنلندا مدارس أفضل من سواها .. المدرسة الأفضل هي المجاورة لبيتك فكلها متساوية. لا توجد مدارس خاصة. 

وهكذا يغرس مور العلم الأمريكي ويرتحل لبلد آخر وتجربة ناجحة أخرى .. سلوفينيا .. تونس.. البرتغال .. النرويج حيث يأخذ القانون الكلمة العليا حتى مع قاتل مجنون قتل العشرات مثل أنديرز بريفيك، وحيث السجون أقرب لفنادق فاخرة.

ينتهي الفيلم بأن يعترف مور بأن معظم هذه الأفكار أمريكي. لكن سيطرة رأس المال والمؤسسات التي حولت كل شيء لبيزنس، حرمت أمريكا من مجد كان بوسعها أن تصل له.

هذه شعوب حلت مشاكلها وتحاول أن تجد المزيد، لهذا لابد لنا أن نشعر بالغيظ ونحن بعد غارقون في مشاكل أكوام الزبالة والماء الملوث وتسرب أسئلة الثانوية العامة والدروس الخصوصية، وإن كنت أتمنى أن يأتي مور ليحاول تعلم شيء منا.