قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, January 4, 2017

حكايات مومياء الثلوج - 2


رسوم الفنان طارق عزام

لا يعرف الوقت..

فقط كانت الشمس تنحدر نحو الغرب، وقد بدأ اللون الأرجواني الممزوج بالأزرق  يلطخ كل شيء.

كان يحمل البلطة النحاسية ويتلفت حوله في رعب. ما اسمه؟ لا اسم له.. إنه هو. هذا زمن تعرف فيه الشخص برائحته وشكله وصوت زئيره، لكننا للتسهيل نطلق عليه اسم أوتسي..

لا بد أنك خمنت أننا قد عدنا بآلة الزمن الخيالية 5500 عام في الماضي.. هناك خمسة وخمسون قرنًا تفصلنا عن هذه اللحظة.

بالتأكيد لم تكن صحة أوتسي على ما يرام. مفاصله متآكلة تمامًا من النقرس والروماتزم.. ولديه أكثر من حصوة في المرارة.. أما أمعاؤه فمليئة بالديدان وأسنانه تالفة.. ويبدو أنه كان يعاني تسممًا مزمنًا بالزرنيخ والنحاس. هذا بالطبع يقضي على أسطورة الرجل القديم المتمتع بصحة رائعة.. هذا رجل سقيم..

البرد جعل جلد وجهه مشققًا كأنه مدبوغ.. لو ضحك – وهذا مستحيل – لسمعت صوت تمزق الأنسجة..

هناك يمشي والبخار يتصاعد من فمه. يمكنك أن ترى الوشم الذي رسمه على عنقه. لو نزعت ثيابه لأدركت أنه موشوم أكثر من أي مطرب راب معاصر. كانوا يصنعون الوشم بإحداث شقوق ثم حشوها بالفحم. يبدو أن هذا أقدم وشم في التاريخ، ويرى بعض العلماء أن هذا كذلك أقدم علاج بالإبر الصينية في التاريخ!

شعر بجوع شديد.. لقد بدأ يهضم ما تبقى من لحم التيس الذي اصطاده منذ يومين..

هناك بعض النباتات النامية التي بدأت تظهر من بين الثلوج الذائبة. لقد اقترب الربيع، لكنه بالطبع لم يكن يملك أي نوايا شاعرية.. اتجه للنبات وراح يبحث عن غايته بين الأزهار. فيما بعد سوف يستطيع العلماء تمييز كل حبة لقاح في معدته، ولسوف يرسمون رحلته بالضبط عبر ثلوج التيرول..

كان يعرف أنهم يطاردونه. لا يعرف لهم أسماء لكنهم الأعداء..

يجب أن يتحاشاهم بأي طريقة..

كان لا يخاف المرتفعات، فهو قد قضى أعوامه الخمسة والأربعين بينها يرعى الماشية، وكانت رئته بحالة ممتازة، لكن من الواضح أنهم يجيدون تسلق المرتفعات مثله..

يمكنك أن ترى ثيابه المعقدة المناسبة للبرد.. كلها مصنوعة من جلد وفراء الحيوانات.. ومن الطريف أن تلاحظ أنه صمم حذاء يصلح للمشي فوق الثلوج. الحاجة أمّ الاختراع فعلًا. هناك جيب يضع فيه إزميلًا ومطرقة..

على ظهره جعبة فيها عدة أسهم وقوس..

يعرف أنه وحيد، لكن لربما استطاع ببعض التحايل أن يخدعهم أو يهرب منهم…. شعر بالعصارة الحمضية تتجمع في صدره.. ما كان يجب أن يأكل لحم التيس بعد ما بدأ يتلف، لكنه كان بحاجة للطاقة..

والحقيقة أن هذه الوجبة لن تُهضم أبدًا.. حتى بعد 5500 عام..

***************

عندما انتهى مصطفى من إنهاء إجراءات الحصول على الجنسية، كان قد قرر ألا يعود إلى مصر أبدًا بعدما انقطعت علاقاته هناك كلها. الأب والأم توفيا.. الأخوات تزوجن ولا يبالين به.. حبيبته تزوجت.. لم يعد هناك مايربطه بمصر سوى النيل والهرم وطبق الفول.. سوف يحاول أن يجد بديلًا في إيطاليا ويحاول أن يحب البيتزا والباستا، وبالتأكيد سوف يجد حبيبة في مكان ما.

كان قد درس ترميم المومياوات، لكنه تحاشى أكثر من مرة أن يعود لمصر. على الأقل في الفترة التالية. يعرف أن مصر نداهة سوف تناديه لأحضانها مهما ابتعد.. هو فقط غير مهيأ لهذا العناق بعد.

كان يعاني الفاقة.. دخله يكفي بالضبط للطعام والمسكن.. وكان يقيم مع طالبة إيطالية حسناء اسمها كلارا. كانت كلارا تحبه حقًا لكنها ترفض مبدأ الزواج تمامًا.

عندما قابل د. باولو في الجامعة، قدر أنه على شيء من الجنون. لكن الجنون معدٍ، وقد سمع من الرجل كلامًا كثيرًا مبهرًا عن مومياء أوتسي.. بالواقع لم يكن الرجل يفكر إلا في أوتسي..

ولما زار مصطفى المتحف في بولتسانو رأى المومياء، فلم تبد له مبهرة جدًا.. لا يمكن أن ينبهر المصري بمومياء أبدًا بعد كل ما رآه، لكنه عرف أن العلماء قد فحصوا كل شعرة في رأس هذا الرجل البائس.. أجروا مئات فحوص الأشعة ومئات تحاليل الحمض النووي.. لا بد أنهم يعرفون شكل حبيبته لو كانت له حبيبة..

هنا توقف د. باولو أمام صورة عملاقة في ركن القاعة..

رأى مصطفى رجل كهف مدثرًا بالفراء، له شعر طويل ولحية، يحمل فأسًا ومدية.. قال له د. باولو إن هذه صورة خلقها الكمبيوتر لأوتسي. هناك علم كامل في الطب الشرعي يقوم على إعادة تشكيل وجوه الجماجم ومعرفة كيف يبدو أصحابها. لاحظ أن باولو ينظر له وللصورة ويبتسم.. هنا فهم سبب اختياره هو بالذات..

مصطفى يحمل نفس ملامح أوتسي.. لو أنه أطال لحيته طبعًا..

همس مصطفى في حنق:
- «لا تقل إنني أحمل جينات هذا الشخص..»

كان يعرف أن التيرول يعج بجينات أوتسي.. هناك أقارب وأحفاد كثيرون له هنا.

قال د. باولو وهو يضع إصبعه أمام فمه بمعنى (خفض صوتك):
- «لم أقل هذا.. لكنني أتحدث عن روح تناسخت في شكلين..»

- «تناسخ الأرواح كلام فارغ.. أنا أؤمن بهذا..»

- «وأنا أؤمن بالتناسخ»

كانت هذه محاورة عابرة وانتهت، لكن ما حدث بعد هذا هو أن مصطفى تلقى عرضًا مغريًا جدًا كي يتعاون مع الدكتور في سرقة المومياء. كان الأمر أقوى من أن يُرفض، ثم أن الأمر يقع ضمن نطاق اهتمامه على كل حال.. نحن نتكلم عن المومياوات..

***************

في العام 1991..

على الحدود النمساوية الإيطالية يقف الزوجان هلموت وإيريكا فوق هذا المرتفع.

كانا ينظران في دهشة وذهول إلى الجثة التي وجداها في ممر تيسنيوخ.. كثير من المتسلقين سقطوا هنا ولقوا حتفهم،  وقد خطر لهما أنها جثة سقطت قريبًا..

كانت المرأة ترتجف من الرعب وهتفت:
- «هذا شنيع!!»

قال هيلموت وهو يحتضنها بقوة:
- «سوف نعود ونجلب بعض الرجال غدًا»

كانت عملية تخليص الجثة المتجمدة من تحت الثلوج عسيرة جدًا. ومنذ اللحظة الأولى أدرك من استخرجوا الجثة أنها قديمة جدًا، وقدر عالم حفريات أنها تعود لأربعة آلاف عام..

حدث خلاف على تقسيم الحدود..

في النهاية جاء قرار التحكيم بأن أوتسي ينتمي لإيطاليا وليس النمسا. وذهب أوتسي إلى متحف جنوب التيرول..

من الغريب كذلك أنهم وجدوا حجرًا تم استخدامه في كنيسة قريبة، وهذا الحجر يعود لذات حقبة أوتسي.. على الحجر ترى صورة لا بأس بها لرجل يتلقى سهمًا في صدره. نفس موضع إصابة أوتسي. من هو أوتسي؟ وما أهميته لدرجة أن يصنعوا له نقشًا على حجر؟

يُتبع