قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, August 1, 2017

ليس لهو أطفال - 1


رسوم الفنان طارق عزام

كان حيًا..

عرف كامل أنه حي وأنه يتحرك.. يمكنه أن يحرك أنامله. وبرغم الوحل الذي يسد خياشيمه وفمه وتلك الرائحة العطنة، فإن بوسعه أن يدرك يقينًا أنه حي.

ثمة احتمال بسيط أن يكون قد مات ولا يدرك هذه الحقيقة، ويكون هذا المكان الكابوسي هو القبر، لكن كل شيء يبدو حقيقيًا ملموسًا. ثمة شيء يميز الواقع بالتأكيد وإلا فلا يوجد شيء اسمه واقع.

راح يشق طريقه وسط الوحل والظلام. محاولة النهوض مستحيلة لأنه لا توجد أرض يرتكز عليها. إنه يزحف في وضع أفقي وينزلق كلما حاول الاعتدال. هذا المكان أقرب إلى مستنقع كريه الرائحة.. كأنه غرق في أنابيب الصرف الصحي مثلاً، ولم يحاول أن يفتش أكثر أو يفهم ما يحدث حوله، لأنه أدرك أن الأشياء الدقيقة التي يخوض فيها هي ديدان.. ديدان موجودة بكثافة غير عادية حتى صارت أقرب لمستحلب.

كان يحاول جاهدًا تذكر كيف ومتى جاء هنا.. لا يستطيع التذكر. كان هنالك في جمصة ينعم بالمصيف.. هناك قناديل بحر كثيرة قرب الشط، لذا قرر أن يتجه إلى أقصى اليمين حيث منطقة نائية لا يرتادها المصطافون وعلى الأرجح لا توجد فيها قناديل بحر.

كان هذا قرب الغروب.. غروب يوم من أيام يوليو.

نزل إلى البحر وراح يستعرض مهارته في السباحة أمام جمهور وهمي، وهي مهارة ضئيلة تشبه سباحة الكلاب كما تعلم.. لكنه كان وحيدًا آمنًا من اللسعات المؤذية للقناديل..

ماذا حدث بعد هذا؟ هو غير قادر على التذكر فعلاً.. فقط كانت هناك قوة كاسحة تقوده لأسفل وكان يقاوم وينثر الماء ويحاول التنفس جاهدًا.

بعد هذا ظلام.

يمكن القول إنه غرق، وهذا يعني أنه الآن في العالم الآخر يواجه عذاب القبر أو ما هو أسوأ. لكن كل شيء كان يخبره إنه ما زال حيًا.. يجب أن يفهم..

****************

سامح كان منبهرًا بالمشهد بينما القارب يشق طريقه في المياه..

طريق أبيض رغوي يتم شقه خلف القارب.. لكنه طريق قصير العمر فعلاً، فلا يلبث حتى تندمل الأمواج ثانية ويختفي الطريق بينما يتعالى صوت هدير المحرك.

ديفيد يقف عند الدفة، وقد عقد القميص حول خصره على اللحم، وهو حافي القدمين.. خيل لسامح أن هذا الفتى لا يلبس حذاء أبدًا.

كان أبو سامح يقف هناك متمسكًا بحاجز القارب وهو متوتر مذعور.. التشاؤم صفة دائمة في كبار السن عامة. بالتأكيد كان يتمنى أن ينتهي هذا العرض الساحر.

قال ديفيد وهو يحمل الدلو ويتجه لحافة القارب:
- «هذا هو السمك المتعفن.. راقب ما سيحدث..»

وقلب الدلو بما فيه من مادة عفنة في الماء، ثم راح ينقط بقايا الدم بدورها. هنا بدأ الماء يفور.. للحظة لم يصدق سامح ما يراه، لكنه رأى شيئًا يشبه الديناصور يخرج من الماء ويتقلب.. ثم ظهر شيء آخر وبدا كأنهما ديناصوران يتصارعان على التهام السمك.

قال ديفيد في مرح:
- «الطول لا يقل عن سبعة أمتار.. هذا طول مخيف..»

كان ديفيد يتكلم بطريقة التطجين الأسترالية المعروفة، وحتى اسمه كان ينطقه (ضايفيض) ويقول على الثعبان snake (صنايك).. لكن سامحًا كان قد اعتاد اللهجة الأسترالية وأحبها فعلاً.

- «الإناث أصغر بشكل واضح من الذكور.. وهذا التمساح يعيش في المياه المالحة طبعًا، لكنه كذلك قادر على أن يعيش في المستنقعات»

منذ سمع سامح عن تمساح المياه المالحة وهو مندهش.. ارتباط التماسيح بالمياه العذبة والأنهار قوي جدًا، لكن حقيقة وجود مزارع شاسعة من التماسيح في منطقة البحيرات هي حقيقة غريبة.

قال الأب وهو يرتجف لرؤية المشهد البشع:
- «لماذا يربي شخص عاقل هذه الوحوش؟»

قال ديفيد ضاحكًا:
- «هذه ثروة.. الجلود ثروة واللحم ثروة.. إن التمساح كنز للتصدير، وهذه المزرعة تكفي لجعلي أنا وأبي ثريين..»

ثم أردف:
- «على كل حال أنا ولدت في هذه البيئة.. لم أعرف لنفسي عملاً في حياتي سوى تربية التماسيح وصيدها وذبحها وسلخها.. لا أجيد أي عمل آخر»

عامة أخبرهما ديفيد أن تمساح المياه المالحة يتمركز في أستراليا وجنوب شرقي آسيا، وهو من أشرس الزواحف وأخطرها، كما أنه من هواة أكل البشر بامتياز..

- «لابد من فقد عامل أو عاملين كل عام في هذه المزارع»

- «هل يخطف الناس من تحت الماء؟»

- «أحيانًا يقلب القوارب، لكن التمساح يحتاج لأن يظل رأسه فوق الماء فهو لا يقدر على التنفس تحته.. لهذا يغطس كله ما عدا قمة الرأس.. وفي الليل يمكنك لو سلطت الكشاف على الماء أن ترى العيون اللامعة المخيفة. لديه طبقة عاكسة في شبكية العين».

أخيرًا يدير ديفيد دفة القارب نحو الشط…

كان أبو سامح طبيبًا هاجر لأستراليا منذ زمن، وقد استطاع أن يرتب حياته هناك.. وقد ظفر بصديق مخلص هو كاثريل وابنه ديفيد، وهما يملكان عدة مزارع تماسيح في شمال البلاد. لم يكن مولعًا بالموضوع، لكنه عرف أنه سيروق لابنه المراهق ذي الاثني عشر عامًا سامح.

هكذا كان هذا اليوم الممتع للابن المزعج للأب، الذي لم يحب الرحلة البحرية ولا التماسيح ولا البحيرات المالحة ولا أي شيء على الإطلاق. لم يستطع أن يبعد عن ذهنه احتمال أن ينقلب القارب أو يسقط أحد ركابه في الماء.. ما فرصته في النجاة؟

حسب ما قاله ديفيد عن تمساح المياه المالحة، ففرصة النجاة صفر..

عندما ترجلوا على الشط قال ديفيد إنه يريد دعوة الأب إلى قدح من الشاي مع الحلوى، واتجه الرجلان إلى حيث مظلة يعنى بها أحد العمال.

وقف سامح على الشط وطاقة الأدرينالين لديه ما زالت عالية. كان آخر شيء يرغب فيه هو الجلوس وشرب الشاي، هكذا راح يركض هنا وهناك ويركل الرمال..

هتف الأب:
- «لحظة يا سامح.. هذه المنطقة خطرة. التماسيح تتجه للشط بالتأكيد»

قال ديفيد ضاحكًا:
- «نحن نضع سورًا من السلك الشائك حول البحيرة لمنع التماسيح من ارتياد هذه البقعة.. لديهم الجزء الغربي من البحيرة.. يمكنك أن تطمئن»

مشى سامح وحيدًا وهو ينظر للأرض. يلتقط من وقت لآخر حجرًا غريب الشكل فيدسه في الحقيبة المعلقة في كتفه..

فجأة توقف.. هذه المجموعة من البيض.. بيض أصغر نوعًا من بيض الدجاج، وله قشرة جلدية مرنة.. أي بيض هذا؟

كان أول خاطر جاب ذهنه هو أن هذا بيض تماسيح. قال ديفيد إن التمساح يضع نحو 60 بيضة، وهي ملكية مشتركة لكل الإناث.. أي أن الأم التي تجد البيض ترعاه حتى لو لم يكن بيضها.

الرئيس الأمريكي روزفلت أمر ذات مرة بإعداد عجة له من 90 بيضة تمساح، وقد أكلها وقال إنها لذيذة الطعم!

سامح راكع على ركبته يرمق البيض ويفكر..

لماذا لم يشعر بالأنثى القادمة في بطء من خلفه؟

 يتبع