قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, September 19, 2017

قصص لا تكتمل - 2


رسوم الفنان طارق عزام

من جديد بدأ صوت طرقات أصابع مصطفى على مفاتيح لوحة الكتابة.. تك تتك.. تتك.. تك.. لفافة التبغ تحرق أنامله والقهوة تملأ معدته وتتصاعد إلى رأسه. سيكون الثمن هو الأرق، لكن لابد من ثمن لهذا التوهج الفكري الذي يشعر به.. الفكرة تولد.. الرأس يبرز.. ثم الجسد كاملاً.. الفكرة تصرخ وتعوي طالبة الرضاعة..

الحجرة مظلمة هادئة تفوح برائحة مبيد الحشرات، ودخان القهوة يتكاثف أمام الشاشة.. رائحة القهوة الزكية تملأ خياشيمه..

يرى على الشاشة ميلاد العنوان. كان من هؤلاء الكتاب الذين يضعون العنوان أولاً. كان يشعر بأن القصة ولدت بهذا الشكل وصار لها كيان وبيت ورقم قومي.. لم يستطع قط فهم الكتاب الذين يرجئون عنوان القصة إلى النهاية. ومن الغريب أنه قلما احتاج إلى تغيير العنوان فيما بعد..

وحيد في الظلام


ينتهي رأفت من كوب الشاي ويطفئ بقايا لفافة التبغ في المطفأة، ثم ينظر إلى الساعة.. الثانية عشرة والنصف. لقد تأخر أكثر من اللازم وبدأ يوم جديد جغرافيًا.

نهض رأفت وارتدى السويتر الذي وضعه على الأريكة جواره، وقال لسلوى معتذرًا:
– طالت سهرتي.. أنا آسف..

قالت سلوى ضاحكة:
– الوقت الطيب يمضي سريعًا.. كنت أحسبها التاسعة

– صباحًا؟؟؟

وابتسم في خبث، بينما نهض شريف من جلسته الكسول على الأريكة، فبدا واضحًا أن النوم يتسلل إلى وعيه لكنه يقاوم تأدبًا. قال لرأفت:
– هل تنوي أن تغادر الآن؟  لم لا تبقى حتى الصباح؟

قال رأفت وهو يتحرك نحو الباب:
– لابد أنك تمزح..

انفتح باب الفيلا لتظهر سيارة رأفت الناعسة في الظلام، وقد تغطت بالندى. لسبب ما شعر بأنها صديق قديم ينتظره ليقله إلى فراشه المريح..

– تصبحان على خير

هنا توقف شريف عن التثاؤب وقال في حذر:
– كن حذرًا في رحلة العودة

– تعرف أنني سائق حذر

قال شريف وقد اتسعت عيناه:
– ليس بالضبط .. هناك قصص مخيفة تتردد في هذه المنطقة.. أنت تعرف أن المقطم مخيف ليلاً. ليس كل المكان رحبًا، وهذه أول مرة تزورني فيها فلا أريد أن يحدث ما يعكر صفو الزيارة

– قصص مخيفة؟

– قصص مما يتداولها العجائز أو تخاف منها السيدات.. أعرف أنه كلام فارغ، لكن أنصحك بشيء واحد: لا تتوقف في طريقك لأي سبب..

أشعل رأفت لفافة تبغ أخرى وقال وسط الدخان:
– يعني لو فوجئت بطفل يقف في وسط الطريق ملوحًا بذراعيه.. فهل تقترح أن أدهمه؟

– لو كنت مكانك لدهمته!.. لماذا يقف طفل وحده على الطريق في المقطم ليلاً؟

ابتسم شريف… هذا السخف لا معنى له لكنه يجعلك تتوتر بالتأكيد.. التفكير في الرحلة الطويلة في الظلام إلى بيته ليس من الخواطر المريحة. بالإضافة إلى أنه يشعر بنعاس شديد.. يسهل أن يحدث شيء لمن يشعرون بنعاس.. الحقيقة أنه كان يجب أن يختصر السهرة ساعتين…

قال رأفت وهو يفتح السيارة:
– سأظل حيًا.. أعدك بهذا

ثم ركب وأدار المحرك ولوح بذراعه للزوجين.. لا أضواء سوى وهج سيجارته والضوء الناعس القادم من الباب حيث يقف الزوجان..

ما نوعية الخطر الذي يتكلم عنه شريف؟ واضح أنه يتعلق بالأشباح أو الجان.. شيء من هذا القبيل..

ينطلق في الطريق المظلم إلا من أضواء الكشافين.. يشعر بعصبية حقيقية.. لو أراد شريف أن يوتره فقد نجح فعلاً.

لتنته هذه الليلة بسرعة.. لتنته.. ماذا لو تلفت السيارة هنا؟ لو حدث عطل فإن……………..

ضوضاء من المحرك!.. اللي يخاف من العفريت…..

بالفعل لا مزاح هنا. إن المحرك يرفض أن يدور. توقفت السيارة إلى جوار الطريق وهي تطلق أصواتًا تشبه صوت حشرجة المذبوح. كان سريع البديهة.. ألقى نظرة إلى مؤشر البنزين فأدرك أنه نفد.. لا توجد قطرة بنزين في السيارة، وهو خطأ يتكرر معه مرارًا لكنه لا يتعظ.. من الواضح أنه الليلة سيتلقى درسًا لن ينساه.

الطريقة هي أن يحمل جركن بنزين ويمشي في الظلام بحثًا عن محطة وقود قريبة، لكن كيف يجدها أولاً؟ ثم أنه لا يحمل جركن في السيارة..

من يطلب؟ ربما يطلب شريفًا، لكن في هذا قدرًا هائلاً من الإزعاج.. وشريف لا يحب القيادة ليلاً، دعك من أنه لن يتمكن من مساعدته في نقل البنزين. يطلب الميكانيكي في ساعة كهذه؟ مستحيل… فكر في مازن صديقه المحامي… إنه عزب ويسهر كثيرًا ويجيد التصرف.. سوف يأتي له خلال ساعة مع جركن مليء بالبنزين الجميل شهي الرائحة، مع زجاجة بلاستيكية سيقصها لتتحول إلى قمع.

الهاتف يرن.. الحمد لله أن هناك شبكة. الهاتف يرن بإلحاح.. أرجوك أن ترد يا مازن.. أرجوك أن ترد….

ثم جاء صوت مازن المطمئن يسأل عما هنالك..

بضع كلمات.. ثم قال مازن إنه سيأتي حالاً ومعه بنزين…

– مازن.. تأكد أولاً من  أن سيارتك فيها بنزين!!

ضحك مازن كثيرًا ثم وضع السماعة.. والحقيقة أن هذه كانت المرة الأخيرة التي يتبادل فيها محادثة مع رأفت….



للحظات ظل مصطفى يرمق الشاشة..

القصة جيدة لكن استكمالها صعب فعلاً. لقد تم حشد القارئ لحدث مروع.. شيء يفوق الخيال سوف يظهر لرأفت حبيس سيارته… أي شيء مثل سفاح أو غولة أو مذءوب أو مصاص دماء هي أشياء يتوقعها القارئ ولن يندهش…

طبع القصة على الطابعة، ثم أمسك القلم وراح يتابع السطور التي كتبها..

بداية لا بأس بها لكن النهاية مستحيلة. وضع الورق على المكتب وقرر أن يخلد للنوم وفي الصباح قد تولد أفكار جديدة..  هذه بذرة قد تنمو بعد ليلة أحلام كاملة.

في الصباح تناول إفطارًا خفيفًا.. الزوجة ذهبت لعملها والأطفال في المدارس.

القصة.. ماذا حدث لها؟

هنا فوجئ بأن الورق غير موجود.. والقصة غير موجودة في ذاكرة الكمبيوتر..

هل تصرف دون أن يدري وتخلص من القصة ومحاها من الذاكرة؟ هل هو مجنون؟

لابد من كتابة بذرة قصة جديدة..

يُتبع